المقال الثاني
ما لنا غيرك يا الله
بقلم الدكتور محمد ناصح عبد الله
16/10/2011
Jihad4syria@gmail.com
http://mohdnaseh.blogspot.com
أكملت الثورة على الظلم في سورية شهرها السابع، والحال كما يبدو ظاهرياً يراوح في مكانه، مظاهرات طيارة سريعة تهدف إلى تسجيل هدف في مرمى النظام، يقابلها عمليات قتل واعتقال وتعذيب حتى الموت، بل وتهديد بخطف النساء وانتهاك الأعراض من أجل بث الرعب في النفوس .. المجتمع الدولي مستمر في حربه الكلامية على النظام وفي فرض عقوبات لا تسمن ولا تغني من جوع، والثائرون في سورية يستجيرون بالحماية الدولية، حتى إذا يئسوا من البشر لجؤوا إلى رب البشر فكان هتافهم ( ما لنا غيرك يا الله ). وفي نفس الوقت يتمرد بعض الجنود والضباط الصغار على الأوامر المعطاة لهم بقتل المتظاهرين، وينتهي التمرد بتصفية أكثرهم وفرار البعض وتشكيله كتائب تريد القيام بعمليات انتقام ضد الأمن والشبيحة . أمريكا وأوربا تحاولان استصدار قرار إدانة للنظام السوري وتهديد له من مجلس الأمن فتتبارى روسيا والصين في استخدام الفيتو ضد هذا القرار، وهذا يزيد النظام غروراً واستخفافاً بالذي يجري وإمعاناً في المكابرة ومحاولة القضاء على الثورة بدل الاعتراف بها والتحاور الجدي معها.
الذين قاموا بالثورة في سورية هم شباب قرروا العيش بكرامة أو الموت في سبيل الله، ولم يعد الخوف كافياً ليبقيهم خانعين خاضعين ومستسلمين للظلم والتهميش. هؤلاء الأبطال لديهم الكثير من النوايا الطيبة المخلصة لكن حنكتهم السياسية ما تزال أقل من همتهم وبطولتهم، وبخاصة أن النظام الذي حرَّم على الناس ممارسة السياسة في سورية منذ ثمانية وأربعين سنة، لم يسمح لنمو طبيعي للوعي السياسي في البلاد، وإن كان الشباب فاقوا كل التوقعات من حيث وعيهم واستبسالهم.
في هذا المناخ يبقى المجال مفتوحاً لمن يريد الاصطياد في الماء العكر، سواء من قبل النظام أو من قبل بعض القوى الدولية التي تريد اغتنام الفرصة لتحقيق أهدافها الخاصة في منطقتنا. النظام يخوف الطوائف غير السنية ويخوف العلمانيين في سورية من سقوطه ومجيء حكومة متطرفة على النمط الإيراني الذي يضيِّق على الحريات الشخصية والسياسية باسم الإسلام، كما يقوم النظام في نفس الوقت بمحاولة إشعال فتنة طائفية بين السنة والعلويين لعلها تكون طوق نجاة له، كما يحاول استفزاز الثائرين وجرهم إلى التورط في العنف وحمل السلاح كي تتغير قواعد اللعبة إلى لعبة هو ماهر فيها وقادر على المغالبة والانتصار. وبالمقابل تحاول أمريكا استغلال الظروف كي تخلق رأياً عاماً في سوريا مرحباً بتدخلها عسكرياً للإطاحة بالنظام والإتيان بنظام غيره، نظام نحن نحلم أن يكون نظاماً مخلصاً وأميناً على مصالح الأمة، وأمريكا تحلم أن يكون عميلاً لها ينفذ سياساتها ويحمي اسرائيل.
الحيرة والتخبط واضحان هذه الأيام في تناقض الأصوات المطالبة بحماية دولية للمتظاهرين والرافضة للتدخل العسكري إلىى الأصوات المطالبة بحمل السلاح لمواجهة نظام لا يفهم لغة أخرى غير لغة القوة، مع أصوات تؤكد على سلمية الثورة وبعدها عن الطائفية. في غمرة هذا التخبط وهذه الحيرة رفع المتظاهرون لافتات تطالب بتدخل أجنبي في بلادهم، أي بالعودة إلى عصر الاستعمار المباشر، وهم ما كانوا ليطالبوا بذلك لو علموا ما وراء الرغبة الأمريكية المعلنة في مناصرة الثورة السورية عسكرياً، ولو علموا أنهم في غنىً عنها وسينتصرون من دونها.
على الرغم من أن حرباً أهلية حصدت عشرات الألوف من الشهداء في ليبيا واستهلكت مليارات كثيرة من الدولارات واعطت امتيازات لأمريكا وفرنسا في نفط ليبيا إلا أن ترفُّع القوى الغربية عن احتلال ليبيا أو تقسيمها أوْهَم الكثيرين منا أن الدول الغربية يمكن أن تساعدنا دون أن تحتل أرضنا أو تقسم بلدنا. والحقيقة أنهم لا يهمهم من ليبيا إلا نفطها بينما سورية ذاتها مهمة لهم رغم فقرها في النفط وغيره من الثروات الطبيعية. الأرض السورية والأمة السورية هي ما تريد أمريكا أن تسيطر عليه لا النفط ولا غيره. لقد ضمنوا السيطرة على النفط الليبي لأجيال مقابل معونتهم للثوار الليبيين في القضاء على نظام القذافي، وهم ليسوا في حاجة إلى توسيخ أيديهم باحتلال مباشر لليبيا التي لا تهمهم صحراؤها الشاسعة إلا بما تحويه في باطنها من نفط. إن احتلال بلد شاسع مثل ليبيا والمحافظة عليه محتلاً سيكون أمراً مرهقاً ومكلفاً لهم ولن يعطيهم من المنافع أكثر مما أخذوه دون أن يتورطوا ويكسبوا سواد الوجه.
سوريا مختلفة عن ليبيا من حيث موقعها الاستراتيجي وصغر مساحتها وتشكيلتها الطائفية والعرقية وجوارها لإسرائيل. من يسيطر على سورية ويضع قواعده العسكرية فيها يسيطر على الشرق الأوسط بكامله، فهي تتوسط هذا الشرق الأوسط وتقع في القلب منه. منذ سنين طويلة والأمريكان يحلمون باحتلال سورية لكنهم كانوا خائفين من رفض السوريين لهم ومقاومتهم لاحتلالهم على اختلاف طوائفهم وأديانهم وأعراقهم .. لقد دخلت القوات الأمريكية إلى العراق واستقبلها بالترحاب ثلثا الشعب العراقي من أكراد وشيعة، ومع ذلك أرهقت المقاومة التي لم تكن متوقعة كل خططهم في العراق، وجعلت بقاءهم فيه مكلفاً جداً لهم. هذا لا يعني أنهم لم يحققوا شيئاً مما احتلوا العراق من أجله، فالعراق أصبح مقسماً إلى ثلاث دويلات تماماً كما كانت تحلم إسرائيل: دولة كردية، ودولة شيعية، ودولة سنية، وإن كانت شكلياً متحدة اتحاداً فيدرالياً ضعيفاً. ارجعوا إلى كتيب خنجر إسرائيل الذي نشره صحفي هندي في أوائل الستينات قبل هزيمة سبع وستين بعدة سنين لتروا ما تحلم به اسرائيل، من تقسيم لمنطقتنا إلى دويلات طائفية متناحرة تكون إسرائيل بينها بمثابة دولة عظمى متحكمة، ويكون في ذلك ضمان لبقائها وأمنها وازدهارها. لقد قرأت هذا الكتيب بعد هزيمتنا في حزيران سبعة وستين ربما بسنة أو أكثر، وكنت قبل حرب حزيران أراه معلقاً مع مجلات سوبرمان وميكي ماوس التي كان يبيعها رجل في حيينا ضمن ما يبيعه مما يرغب به الأولاد من حلوى وألعاب، وكان الكتيب تزينه فضلات الذباب من طول الزمن الذي عرض فيه دون أن يجد من يشتريه.. كنت أشتري مجلات سوبرمان وقصص الأطفال ولم تراودني فكرة شراء هذا الكتيب الذي كان على غلافه صورة خنجر يقطر دماً، وحتى عندما قرأته بعد ذلك كانت نسخة أعارني إياها مدرس فلسطيني متقاعد، وقد ذهلت بما وجدت فيه. كان فيه خطة إسرائيل لاحتلال الجولان والضفة الغربية وسيناء ثم إرجاعها مقابل السلام والتطبيع، وكان فيه خطة إسرائيل لتقسيم سورية ولبنان إلى دولة علوية تأخذ الساحل السوري وتضم حمص وحماة وطرابلس، ودولة مسيحية تأخذ ماتبقى من الساحل اللبناني، ودولة سنية في الداخل، ودولة درزية تمتد من جبل العرب حتى المناطق الدرزية في لبنان تكون بمثابة حاجز بشري وطبيعي بين اسرائيل وسورية، وكان فيه خطتهم لتقسيم العراق إلى دولة كردية وأخرى سنية وثالثة شيعية. ولكم أن تتخيلوا المنطقة لو نجحت إسرائيل في مخططها.
لقد حاولت اسرائيل تقسيم لبنان أولاً، وما كانت الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات والثمانينات إلا من أجل ذلك.. كانت أمريكا مؤيدة لإسرائيل في مسعاها، لكن فرنسا التي كان لبنان مستعمرة لها لم توافق على تقسيمه، وأوعزت إلى حافظ أسد أن يدخل لبنان ويحول دون تقسيمه. وهذا لاقى هوىً عند حافظ أسد ذي النزعة القومية الوحدوية، وكان دفاعه ضد تقسيم لبنان دفاعاً عن وحدة سوريا وتأجيلاً لأي مخطط لتقسيمها. ثم جاءت الفرصة المواتية لتنفيذ خطة تقسيم العراق والفوز بنفطه جائزة ، فقامت أمريكا بغزوه تعاونها بريطانيا وانضمت إليهما فرنسا التي عاندت في البداية، وكان معها حافظ أسد معانداً، حتى إذا تيقنت فرنسا أنها ستخرج من المولد بلا حمّص ما لم تشارك أمريكا في احتلال العراق، أقالت فرنسا وزير دفاعها وانضمت إلى الحلفاء ومعها سورية التي ضمنت لهم وقوف إيران على الحياد. لقد مهد الحظر الجوي الذي فرضته أمريكا على جنوب العراق وشماله منذ عام 1991 وحتى غزوهم العراق عام 2003 مهد لتقسيم العراق وكرس شعور العراقيين بالانقسام على أساس طائفي وقومي، لكنه أبداً لم يَحْمِ العراقيين من بطش صدام الذي ارتكب المذابح في البصرة عندما انتفضت، ولم يكن بحاجة إلى الطيران للقيام بذلك، وهو يواجه شعباً أعزل أو شبه أعزل. لقد كانت الحياة في العراق أيام صدام قاسية من حيث فقد العراقيين للحرية السياسية ووقوعهم ضحايا نزوات دكتاتور سفاح مثل صدام، لكن الأمور لم تتحسن كثيراً بعد احتلال أمريكا للعراق، فالذين قتلوا بعد الاحتلال أضعاف أضعاف من قتلهم صدام، وما تزال العراق تعيش حالة من الخوف والفقر وسوء الخدمات والفساد السياسي والإداري والفوضى على كافة الأصعدة، بما يجعل كثيرين يترحمون على أيام صدام ويرونها خيراً مما يعاني منه العراق الآن. لقد كان الهدف المعلن للغزو الأمريكي للعراق هو تحرير الشعب العراقي من دكتاتور مستبد ونقل العراقيين إلى نعيم الحكم الديمقراطي، وكان الهدف الحقيقي هو السيطرة على نفط العراق والخليج وتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات ضعيفة لا تشكل أي تهديد لإسرائيل، والواقع يرينا أن الأمريكان نجحوا في تحقيق أهدافهم غير المعلنة ولم يحقق الشعب العراقي الكثير من المكاسب، ولم تتحقق أحلامه في حياة حرة كريمة راغدة حتى الآن، رغم الأعداد التي لا تحصى من الضحايا، والدمار، والجراح الجسدية والنفسية التي أصابت العراقيين بسبب الغزو، وبسبب الحصار الاقتصادي الذي سبقه، وكان الادعاء أنهم فرضوه من أجل الشعب العراقي.
ما تزال إسرائيل ومن ورائها أمريكا تحلم بتقسيم سورية ولبنان. وبالنسبة لإسرائيل لا يبدو هنالك من هو خير من النظام السوري الحالي إلا أن تحتل أمريكا سورية وتقسمها وتضع فيها حكومات تابعة تنفذ سياساتهم وتحمي إسرائيل، لذا فإن إسرائيل لا تشجع على الإطاحة بالنظام الحالي إلا من خلال التدخل العسكري الأمريكي المباشر الذي يضمن أمنها ومصالحها وتحقيق حلمها في تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية ضعيفة متناحرة. وهذا يعني أن أغلب الساسة الأمريكيين سيكونون متحمسين لمثل هذا التدخل حتى لو كلف أمريكا المال الكثير رغم ما تمر به من صعوبات اقتصادية، هذا إن افترضنا أن أمريكا لن تجبر دول الخليج على دفع نفقات تدخلها في سورية بحجة أنه تدخل من أجل حماية الشعب السوري وتحريره. وهذا يفسر ضعف الدعم الأمريكي للثورة السورية وفتوره الذي يهدف إلى إعطاء النظام فرصة لقتل المزيد من السوريين، لا حباً في النظام وحرصاً عليه، بل ابتزازاً للشعب السوري بتركه فريسة بيد النظام، مما جعل بعض المتظاهرين السوريين يرفعون لافتات تطالب بالحظر الجوي والتدخل العسكري. إنهم يريدوننا أن نتألم حتى نصرخ ونستغيث بهم ونرضى بشروطهم لنجدتنا ومساعدتنا. وأمريكا لا تتصرف بمفردها في منطقتنا إذ عندها دول تابعة لها لا تقدر على مخالفتها تحيط بسورية وتمارس نفس الضغط على الثورة السورية، وذلك بالامتناع عن المساعدة مع التلويح بها كي يدفعنا اليأس إلى الالتجاء إليهم والقبول بشروطهم.
الأمريكان لا يهمهم أن يقتل منا الآلاف أو عشرات الآلاف ظلماً، فمجزرة تدمر في صيف عام 1980 لم تكن غائبة عنهم، والسوريون يومها وصلتهم أخبار دخول عناصر من سرايا الدفاع إلى مهاجع السجناء الإسلاميين في سجن تدمر وإطلاقهم النار عليهم وقتلهم لأكثر من ألف سجين، دون معرفة أسمائهم، ودون ثبوت أية تهمة عليهم. وما كان ذلك إلا انتقاماً لقيام شاب إسلامي كان في الحرس الخاص بحافظ أسد بإلقاء قنبلة يدوية عليه لقتله، لكن لسوء حظ السوريين أو ربما لحسنه، نجا حافظ أسد، وأمر في اليوم التالي بالانتقام من أكثر من ألف إسلامي لا دخل لهم بمحاولة اغتياله. المهم لم تكن مذبحة كهذه علم بها السوريون فور وقوعها، لتخفى على أمريكا وغيرها من الدول الغربية أو الدول المحيطة بسورية، ولم يكن صمت الجميع عليها نتيجة عدم علمهم بها، بل تجاهلوها لأن دماء السوريين لا قيمة لها عندهم، ولأن النظام وقتها كان يحارب الاتجاه الإسلامي، بعد نجاح الإسلاميين في إيران في ثورتهم عام 1979، وخشية أمريكا من نجاح الإسلاميين في دول المنطقة في ثورات مماثلة.
عندما تخدم الجريمة مصالحهم فإنهم يغضون الطرف عنها حتى لو كان ضحاياها عشرات الآلاف من الأبرياء، وهذا بالضبط ما حصل في حماة في شباط 1982 ، عندما أعلن مجموعة من الشباب الإسلامي فيها ربما لا يبلغون مئتي شاب، أعلنوا تمرداً مسلحاً، وكانوا مختبئين في الأحياء القديمة من مدينة حماة، حيث البيوت متلاصقة والحارات ضيقة ويسهل على الشباب الدخول إلى بيت ثم القفز على الأسطح للوصول إلى أماكن بعيدة يصعب القبض عليهم فيها، فكانت أوامر حافظ وبتنفيذ أخيه رفعت لها، بمحو الأحياء القديمة من حماة وتدميرها حتى على رؤوس أهلها، من أجل القضاء على ذلك التمرد الذي لم يكن مسلحاً بأكثر من البنادق والقنابل اليدوية ، ومن أجل إزالة أي مخبأ يمكن للمتمردين أن يختبئوا فيه، فكانت مذبحة حماة التي يقال أن ضحاياها كانوا بالآلاف أو ربما عشرات الآلاف.
لم تقع مذبحة حماة في غفلة من أمريكا وحلفائها في المنطقة، ولم تكن أرواح السوريين الأبرياء لها أية قيمة لديهم طالما كان إزهاقها فيه مصلحة لأمريكا وإسرائيل والأنظمة الحليفة لهما في المنطقة. واليوم لا يتباكى الأمريكان على شباب الثورة السورية الذين يقتلهم الأمن والشبيحة لمجرد أنهم هتفوا مطالبين بالحرية وإسقاط النظام، لا يتباكون حزناً ورحمة على قتلانا إنما هي الفرصة واتتهم لتوظيف هذه الجرائم التي يرتكبها النظام واستغلالها والاستفادة منها لتحقيق أحلامهم الاستعمارية وأحلام إسرائيل. ولا تظنوا أن روسيا والصين استخدمتا الفيتو في مجلس الأمن حباً في النظام وكرهاً بالثوار، إنما هي مصالحهم ودفاعهم عن أنفسهم حيث يشكل سقوط سورية في يد أمريكا تهديداً لهما، لذا أحبطتا مشروع القرار الأوربي الأمريكي في مجلس الأمن لأنه كان يمهد قانونياً وسياسياً لتدخل عسكري أمريكي في سورية، ولتحوُّل سورية إلى قاعدة أمريكية. في أيام الاتحاد السوفيتي كانت الإيديولوجية الاشتراكية تدفع روسيا والصين لمساعدة الدول التي تنادي بالاشتراكية ولو كلفهما ذلك الخسائر المالية، لكن الإيديولوجيا الاشتراكية لم تعد تحرك أحداً هذه الأيام.
أقول ذلك لأبين لشباب ثورتنا أن موقف روسيا والصين ليس موقفاً مؤيداً للنظام في سورية ضد شعبه من أجل عيون النظام، إنما هي مصلحتهم الاستراتيجية التي ترى النظام رغم جرائمه خيراً من احتلالٍ أمريكي لسورية، ومن تحولها إلى قاعدة للأمريكان. أي إنه لو ضمن الروس والصينيون أن الإطاحة بالنظام ستأتي بنظام آخر لا يسمح لأمريكا بالسيطرة على سورية أو احتلالها فإن موقفهم من ثورتنا سيتغير. تشرشل قال قديماً: ( ليس لبريطانيا أصدقاء دائمون إنما لها مصلحة دائمة )، وهذا ينطبق على روسيا والصين وحتى على إيران، وعلى كل دول الأرض، إلا التي تحكمها أنظمة عميلة تقدم مصلحتها كأنظمة على مصلحة أممها، كما كان حال نظام مبارك على سبيل المثال. أنا لست منزعجاً من الفيتو الروسي والصيني رغم أنه يصب في مصلحة النظام، فرب ضارة نافعة كما تقول العرب، ولعل في هذا الفيتو إبعاداً لشبح الاحتلال الأمريكي عن بلادنا ريثما نتروى ونفكر بما علينا فعله للخروج منتصرين وبأقل الخسائر.
ويبقى السؤال هل من مخرج للثورة السورية من حالة المراوحة في مكانها التي تبدو عليها الآن دون تدخل عسكري أمريكي؟ وهل نحن مضطرون للاستعانة بالتدخل الأجنبي ثم تحميل النظام المسؤولية عن اضطرارنا هذا ووضع اللوم عليه؟ وهل ستختلف العواقب إن كنا نحن المسؤولين عن التدخل أو كان النظام هو من اضطرنا إليه؟
دعونا نتخيل الاحتمالات الممكنة ونتخيل عواقبها كي نختار أقلها ضرراً وأكثرها ربحاً لنا.
الاحتمال الأول هو أن تفرض أمريكا حظراً جوياً مشكوكاً بفائدته، وأن تفرض تركيا منطقة عازلة تكون ملاذاً للعسكريين المنشقين والمتطوعين لقتال النظام. ثم تقوم أمريكا وحلفاؤها العرب بتسليح هؤلاء وعندما يبلغون من القوة حداً معقولاً يشنون حرباً برية تغطيها حرب جوية أمريكية وأطلسية، تماماً كما حدث في ليبيا، والأمل أنه على المدى البعيد ستتم الإطاحة بالنظام.
لكن السؤال ما الثمن الذي ستدفعه سورية من أرواح أبنائها ومن دمار مقدراتها حتى نحقق ذلك الانتصار؟ وهل يومها ستكون الدولة السورية الجديدة دولة مستقلة استقلالاً حقيقياً بحيث تحمي مصالح السوريين ولا يكون دورها غير تنفيذ السياسة الأمريكية في المنطقة. لا تنخدعوا بالوضع الليبي فإن المهم في ليبيا هو نفطها وأسواقها الواعدة ومشاريع بناء البنية التحتية التي تنتظر الشركات الأمريكية والأوربية استلامها للاستفادة من الثروة الليبية في إقالة عثار اقتصادهم المأزوم. ما زلت أذكر اضطرار بلد عربي في التسعينات لإعطاء مشروع اتصالات كبير لشركة أمريكية تطلب أربعة مليارات دولار بينما شركة يابانية كانت مستعدة لتنفيذه بمليار وستمئة مليون دولار فقط. يومها تدخل بيل كلنتون شخصياً لإقناع هذه الدولة بإعطاء المشروع للأمريكان رغم الخسارة الرهيبة لهذه الدولة، وهي دولة مستقلة. ماذا سيكون الحال بعد أن يسقط النظام لنسقط نحن في قبضة الأمريكان؟ والله لن يرحمونا ولن يأتوا إلا من أجل مصالحهم وأطماعهم.
الاحتمال الثاني هو تحول الثورة إلى ثورة مسلحة تحركها الروح الدينية الاستشهادية، وبالتالي تتحول تلقائياً إلى ثورة طائفية سنية ضد علوية، وعندها ندخل في حرب أهلية ستكون مدمرة أكثر من الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت خمسة عشر سنة وخرج الجميع منها خاسرين، وعندها سيتمكن النظام من تجييش جميع العلويين ومعهم الدروز والمسيحيين، لأنهم بالتأكيد لا يريدون أن يحكم سورية حكومة دينية على النمط الإيراني لا تعاملهم كمواطنين لهم جميع حقوق المواطنة بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم. وعندها ستطول الحرب وتكثر الضحايا وسينتصر النظام في النهاية، وسيكون ذلك على حساب وحدة الشعب السوري الذي سيكون لديه الأحقاد والرغبة في الثأر من بعضه بعضاً، وسيطول بقاء النظام إلى أمد لا يعلمه إلا الله.
الاحتمال الثالث أن تستمر الثورة بنفس الزخم أو أكثر منه، ويستمر النظام في ارتكاب جرائمه، مما يدفع الكثيرين من العسكريين للانشقاق بحيث يصبح الجيش السوري مهدداً بالتفكك الكامل، ويرافق ذلك صعوبات اقتصادية حتمية تؤثر على التجار والضباط الكبار الذين يدعمون النظام، بحيث يصبح النظام عبئاً عليهم، لا مصدر منفعة لهم كما كان من قبل، وهم حتى لو صبروا فإن لصبرهم حدود، وسيكون لا بد من انقلاب عسكري مدعوم من فرنسا بالذات ومن وراءها من الدول الغربية للإطاحة بالنظام ومجيء نظام جديد مع بقاء هؤلاء الضباط في مناصبهم. ولكن لماذا فرنسا بالذات؟ لأن فرنسا غير مستعدة لاحتلال سوريا عسكرياً، ولا تحب أن تسيطر أمريكا على سورية وتفقد فرنسا نفوذها ومصالحها فيها، لذا فرنسا التي تؤيد في العلن الموقف الأمريكي الداعي إلى التدخل العسكري في سورية، لا تتمناه في سرها، وتتمنى لو تنفرد هي بحل المشكلة السورية، لتبقى صاحبة النفوذ الأكبر في بلد استراتيجي مثل سورية. طبعاً لو تغلبت أمريكا ففرنسا ستكون شريكة لها، لأن ذلك خير لها من خروجها بلا مكاسب على الإطلاق. هم واقعيون ويتمنون أن تبقى سورية لهم، لكن لن يترددوا في الانضمام إلى أمريكا في أي تدخل عسكري في سورية حتى يضمنوا حداً أدنى من مصالحهم في سورية ولبنان وباقي المنطقة. لكن لو أصر الثوار السوريون على سلمية الثورة، وعلى الرفض التام لأي تدخل عسكري أجنبي، وبقي انشقاق العسكريين سلمياً، أي لم يتحولوا إلى مقاومة عسكرية للنظام تُدْخل البلد في ما يشبه الحرب الأهلية، فعندها سيزداد فتور أمريكا في دعم الثورة من أجل تركيعها، لكن فرنسا ستبقى مؤيدة لأي انقلاب عسكري يقوم به ضباط متعاونون معها ويضمنون لها بقاءها الدولة صاحبة النفوذ وذات الأفضلية عند السوريين.
لو صبرنا على تقديم الشهداء ولم نتورط في أي عنف، فإن المزيد من الشباب سينشقون عن الجيش ، ولا بأس أن ينشقوا بأسلحتهم الفردية، ولا بأس أن يقاوموا محاولات اعتقالهم وتصفيتهم ولو أدى ذلك لاستشهادهم دفاعاً عن أنفسهم، بشرط أن لا يقوموا بأية مهاجمة لا للأمن ولا للشبيحة، فالذي يموت دون نفسه فهو شهيد طالما أن النظام سيكون مصراً على قتل أي عسكري ينشق لإرهاب باقي العسكريين ممن تراودهم أنفسهم بالانشقاق، وهذا قتل ظالم لا يستحقونه ولا يمكن أن ندعوهم للاستسلام للنظام ليقتلهم بدم بارد ثم يسير في جنائزهم على أنهم شهداء قتلتهم العصابات المسلحة المزعومة. لكن قيامهم بالمبادرة والمهاجمة سيفقد الثورة طابعها السلمي، وسيكونون جناحاً عسكرياً للثورة، مما سيطيل عمر النظام ويزيد فرصه في الانتصار والقضاء على الثورة. على المنشقين الإعلان عن أن انشقاقهم كان لأنهم يرفضون قتل إخوانهم السوريين دون حق، لكنهم لن يمارسوا أي حرب مسلحة ضد أي فئة في بلادهم، حتى لو كانت الشبيحة سيئة الصيت. يجب أن لا يهاجم السوري سورياً آخر، أما أن يفر المنشقون بأسلحتهم ويعتزلوا النظام ويكفونه خيرهم وشرهم، ثم إن أصر على مهاجمتهم في مخابئهم لقتلهم، دافعوا عن أنفسهم وماتوا دفاعاً عن النفس، فلا بأس في ذلك، طالما أنهم لم يعتدوا على أحد، ولم يبادروا في الهجوم على أحد.
قد يبدو هذا الكلام مثالياً أو متخاذلاً لبعض المتحمسين الذين تدفعهم رغبتهم في الانتقام من النظام إلى الدعوة إلى التمرد المسلح على النظام. لكن صدقوني إن الضحايا إن بقيت ثورتنا سلمية ستكون أقل كثيراً مما لو تحولت إلى مسلحة، وسيكون انتصارها مؤكداً حتى لو كان على يد ضباط علويين وغير علويين هم الآن جزء من النظام.
قد يقول البعض إن من الضباط الذين يمكن أن يساهموا في الانقلاب المتوقع ضباط تلوثت أيديهم بدماء السوريين المسالمين خلال مرحلة القمع للثورة التي نمر بها حالياً، فكيف سنرضى أن يبقوا في مناصبهم بعد سقوط النظام وأن لا يحاكموا على جرائمهم؟ وأن لا يلاحقوا على كسبهم غير المشروع قبل أن ينقلبوا على النظام؟
نعم سنرضى، لأن المصلحة تقتضي ذلك.
لكن حق أهل الشهداء في التعويض من مال الدولة تعويضاً مجزياً لا يسقط، بل تدفع دية كل شهيد ويعوض كل مصاب التعويض المالي الكبير الذي يضمن للمصاب ولأولاده ولأولاد الشهيد وأهله حياة كريمة، إذ دية المقتول كانت زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مئة ناقة، أي ثروة كبيرة جداً في حسابات ذلك الزمان، ولا بد أن تكون دية كل شهيد من شهداء الثورة ما يعتبر ثروة كبيرة في زماننا.
أما الذين استشهدوا فلن يعوضهم شيء إلا ثواب الله فهم أحياء عند ربهم يرزقون ، ولن ينفعهم القصاص، إنما هو من أجل ذويهم ومنعاً لعمليات الثأر التي يقتل فيها البريء بجريرة قريبه، وسيسعدهم كثيراً أن لا تذهب دماؤهم هدراً بل تكون الثمن لتحرر الأمة والنهوض بأحوالها.
نعم المصلحة تقتضي أن لا يلاحق من ينقلب على النظام ويساهم في إسقاطه، لأن الإصرار على ملاحقته يجعله يستميت في الدفاع عن النظام، إذ يبقى لديه أمل أن ينتصر النظام ويكون بذلك نجاة له من الانتقام والملاحقة. لا تستغربوا هذا المنطق الذي يغلب المصلحة على العاطفة، فهو منطق قرآني نجده في مسألتين. الأولى حالة بغي فئة على فئة في مجتمع المسلمين بدافع سياسي، فقد أذن الله بقتال الفئة الباغية أي المتعدية حتى تفيء إلى أمر الله، أي حتى ترجع إلى الحق والعدل، فإن رجعت أو تم التغلب عليها، فإنها لا تعامل معاملة العدو المهزوم، فلا يقتل منهم الأسير، ولا يُجْهَز على الجريح، ولا يلاحق الهارب، ولا تصادر أموالهم ولا تُسبى نساؤهم، إنما هم بعد هزيمتهم مواطنون كغيرهم، لهم الأمان على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ولا يلاحقون فيما سببوه من قتل أو جرح أو إتلاف مال. اقرؤوا ما جاء في سورة الحجرات حيث يقول تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) }، واسألوا العلماء إن شئتم عن هذه الأحكام التي لا يعلمها كثير منا هذه الأيام.
ثم هنالك المجرمون الذين يمارسون القتل والسطو المسلح، فإن حكم الله فيهم إن وقعوا في قبضة الحكومة حكم قاس شديد، وهو أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو يُنْفَوْا من الأرض، وقد فسر البعض النفي بالسجن. لكن إن تابوا قبل أن يتم القبض عليهم سقطت عنهم العقوبة والملاحقة القضائية، قال تعالى في سورة المائدة : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }.
ويبقى السؤال: لِمَ أسقط الله العقوبة عنهم بمجرد أن تابوا وتوقفوا عن جرائمهم؟
إن في ذلك حكمة عظيمة، فالحكومات تعرف مدى صعوبة محاربة العصابات المسلحة وتعذر القضاء عليها، لذا ترك الله لهم باب التوبة والعودة إلى المواطنة الصالحة مفتوحاً، وإلا فإنهم سيجدون أنفسهم مضطرين للاستمرار في نشاطهم الإجامي حتى يُقْتلوا أو يُؤْسَروا طالما أنهم سيلاحقون على جرائمهم التي تورطوا فيها في جميع الأحوال. هذا العفو الدنيوي لا يسقط عنهم الإثم والعقوبة في الآخرة، ولا يضيع حق من سُلب ماله أو عرضه أو أصيب بجرح أو قتل فرد من أسرته، بالتعويض المجزي والسخي، إنما يتم التعويض من مال الدولة، ويترك المسلحون الذين تابوا قبل أن يتم القبض عليهم دون ملاحقة حتى يتشجعوا على العودة إلى الحياة الشريفة ولا يتحولوا إلى أسرى لماضيهم ولجرائمهم التي ارتكبوها.
إن هذا العفو عن الذين ارتكبوا الجرائم بحق الأمة ثم قرروا التغيير من قبل أن يهزموا ويتم القبض عليهم ليس من أجلهم، بل هو من أجل المجتمع الذي يفقد الشعور بالأمان إن استمروا في جرائمهم ويصعب عليه هزيمتهم في أغلب الحالات إلا بعد ضحايا كثيرين .
رب العالمين يحرص على المصلحة العامة ويعطيها الأولوية على العواطف والرغبة في الثأر والانتقام. هذا بخصوص المجرمين فكيف بخصوص الذين يرتكبون جرائمهم بدافع سياسي ونحن لم ننتصر عليهم ونأسرهم إنما هم انقلبوا على النظام وأطاحوا به ليتحقق للثورة بعض الذي تكافح من أجله.
قد يقول البعض إن الثورة في غنىً عن هؤلاء وستستمر من دونهم ولا بد أن يسقط النظام في النهاية وتتم محاسبة هؤلاء على جرائمهم.
أولاً الواقع يقول إن نظاماً من أناس لا حياء عندهم ولا كرامة لن يتخلى عن السلطة ويعرض نفسه للملاحقة لمجرد أن الملايين خرجت إلى الشوارع تهتف مطالبة بسقوطه. إن رجلاً عنده كرامة مثل ديغول استقال واعتزل السياسة عندما طرح للاستفتاء مشروعاً فرفضه أكثر من نصف الشعب الفرنسي فاستقال ديغول، ولم يكن أحد يطالبه بالاستقالة، إنما كانوا يعارضون مشروعه، ولو بقي في منصبه لما ذمه أحد. لكن الأناس الذين نحن مبتلون بهم لا حياء عندهم ولا كرامة، ولن يأتي اليوم الذي يستجيبون فيه لهتاف الجاهير مهما علا ومهما زاد عدد المتظاهرين. نعم يجب أن لا نيأس وأن لا تتثبط هممنا، لكن علينا التفكير بواقعية، فالله لن يفرج عنا بمعجزة ولابملائكة تهبط من السماء لتطيح بالنظام استجابة لرغباتنا ودعائنا، إنما فرجه يكون من خلال أسباب وعوامل يبدو لي أن انقلاب بعض الضباط العلويين وغير العلويين على النظام الذي هم جزء منه الآن هي الوسيلة التي يمكن أن يفرج الله عنا بها دون أن نرهن مصير بلادنا بيد الأمريكان وغيرهم. لذا علينا أن نسعى في هذا الاتجاه، فهو اتجاه واقعي ومحتمل جداً وتستطيع الاحتجاجات السلمية للمدنيين والانشقاقات السلمية للعسكريين والدعم الدولي السياسي والإعلامي أن تقود إليه، فالهدف هو أن تنصلح أحوالنا ونتخلص من حكم المخابرات والأجهزة الأمنية المتسلطة على رقاب الناس وأموالهم، حتى لو لم يمكن القصاص والثأر للشهداء والمظلومين من قتلتهم وجلاديهم، المهم هو أن يتوقف القتل والظلم قبل أن يصيب الكثيرين ممن لم يصل إليهم حتى الآن، أي المهم هو إنقاذ ما تبقى، ولنترك العدالة للسماء، ولنتغلب على عواطفنا، ولنكن قادرين على العفو وتقبل الذين أساؤوا إن قرروا الانضمام إلى ثورتنا وتخليصنا من هذا النظام المجرم.
لن تنجح ثورتنا إلا إذا كانت ثورة جميع السوريين بما فيهم العلويون. يجب أن لا يقف استعمال النظام لآلاف من العلويين الذين غسل عقولهم وأقنعهم أن مؤامرة تجري ضده لأنه قومي وممانع، واستغل فقرهم واستخدمهم في قمع المتظاهرين، يجب أن لا يقف حائلاً بيننا وبين إخوتنا العلويين. فهذا هو ما يريده النظام لتبقى الطائفة العلوية أسيرة له ومرتبطة به، والقوة العسكرية والأمنية في سورية مركزة في أيدي ضباط منها، ولا أمل بتغيير من دونهم، إلا عن طريق الحرب الأهلية والغزو الخارجي. يجب أن تحرص الثورة على اجتذاب العلويين وباقي الطوائف والقوميات السورية وأن نتناسى الماضي من أجل مستقبل أفضل نشارك كلنا في بنائه العلوي منا وغير العلوي.
صدقوني ليس العلويون أقل فقراً من باقي السوريين ، إنما يلهيهم النظام بالشعور بالتسلط على الناس وخوف الناس منهم ليتخذهم جنوداً له، ليستمر في نهب خيرات البلد هو ومن معه من المنتفعين، ولتبقى الطائفة فقيرة وقليلة الثقافة بحيث يكون التطوع في الجيش والأمن مصدر الرزق الرئيسي لشبابها.
النظام لا يحترم العلويين ولا غيرهم ولا يحرص حرصاً حقيقياً لا على العلويين ولا على غيرهم، إنما هو نظام من أناس فاسدين يجمعون المال من حلال ومن حرام ولا يفكرون بأكثر من استمرارهم في السلطة ليدوم تمتعهم بالامتيازات التي أعطوها لأنفسهم، وما الطائفة العلوية إلا مطية لهم مسخرة لخدمتهم وحمايتهم، وهي بحاجة مثل باقي السوريين لتتحرر منه ولتشارك في بناء سورية بحيث تكون للجميع وتتكافيء فيها الفرص ويسود العدل ويتقدم الأصلح. العلويون بشر مثلنا، عندهم ضمائر مثلنا، ولهم آمال ومخاوف مثلنا، وهم شركاؤنا في هذا الوطن، ولا يمكننا المسير من دونهم، وبخاصة بعد أن تركزت القوة العسكرية والأمنية بأيديهم.
ثم علينا كسب الطوائف الأخرى للثورة من خلال تطمينهم أن ثورتنا لا تسعى إلى حكم ديني يتحكم فيه علماء الدين بالناس، إنما نريد حكماً مدنياً لا يعادي الأديان ويستطيع في ظله العسكري أن يؤدي صلاته علانية دون أن يقع تحت المراقبة والتحقيق، حكم يشجع على مكارم الأخلاق ويحترم شرائع كل طائفة أو دين في الأحوال الشخصية، حكم يطلق الحريات ويسمح للجميع بالمشاركة في صياغة سياسة البلد بالوسائل الديمقراطية، ولا يسمح باضطهاد أي فئة من السوريين بسبب دينها أو قوميتها أو غير ذلك.حكم يتساوى أمامه جميع السوريين فيكون لهم الحقوق ذاتها وعليهم الواجبات نفسها لمجرد أنهم سوريون بغض النظر عن مناطقهم أو مذاهبهم أو أديانهم أو لغاتهم أو قومياتهم. السوريون عائلة كبيرة واحدة تتعاون من أجل حياة كريمة لهم ولأجيالهم القادمة.
حتى تنجح ثورتنا لا بد لها من الحرص على لاءاتها الثلاث: لا للعنف بجميع أشكاله، ولا للطائفية والحرب الأهلية، ولا للتدخل العسكري الأجنبي، فإن بقاء النظام على علاته أرحم للسوريين من أي من هذه الخيارات الثلاث، وكما يقول فقهاء الإسلام: الشر خيار، أي العاقل يختار أهون الشرين ولا يزيل المنكر بمنكر أكبر منه. وإن الاستمرار في ثورة سلمية تضم جميع السوريين وتتقبل من الدول الأخرى العون الذي لا يمس استقلال البلاد، وتترفع على أية أحقاد أو نعرات، هو كفيل إن شاء الله بسقوط هذا النظام ومجيء نظام أحسن منه وأرحم، لكن علينا أن لا نستعجل ولا نتثبط إن تأخر الفرج فإنه قادم وحتمي إن تواصلت ثورتنا ولم تفتر عزيمتنا.
ثورة جميع السوريين
الأحد، 16 أكتوبر 2011
الاثنين، 3 أكتوبر 2011
المقال الأول: ما يحدث في سورية: إلى أين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
ما يحدث في سورية: إلى أين؟
بقلم الدكتور محمد ناصح عبد الله
ما كنت أتوقع أن يتجرأ أحد في سورية على الخروج متحدياً النظام السوري ولو بكلمة، لكن ذلك حدث وبجرأة واستبسال رائعين يدلان على أن السوريين تغيروا وصاروا جديرين بحكام أحسن وأقل سوءاً من حكامهم الحاليين.
ما حدث في تونس ومصر شجع الشباب في سورية وأعطاهم الأمل في تغيير واقعهم وأعاد لهم الشعور أن الجهود يمكنها أن تؤثر، وأنه لا بد لنا من التحرر من اليأس والشعور أنه لا جدوى من المحاولة اللذين كانا مسيطرين علينا. لقد كان سقوط ابن علي ومبارك سريعاً وسهلاً ومغرياً للجميع بالمحاولة، لكن الأمور لم تنجح بنفس السهولة في اليمن وليبيا وسورية، ونحن مدعوون للتفكر في العوامل التي أدت إلى النجاح السهل السريع لثورتي تونس ومصر بينما تطلب الأمر دماراً واسعاً وشهداء بعشرات الآلاف وتدخلاً عسكرياً مكلفاً للإطاحة بالقذافي، ولم تثمر المليونيات العديدة في اليمن حتى الآن.
الذي علينا الانتباه له هو أن استقلال الكثير من بلادنا ما زال منقوصاً وما زالت الدول المستعمرة تمارس التحكم بمصائر بلادنا وسياساتها عن طريق التحكم عن بعد وبطريقة غير ظاهرة للعيان بحيث تعيش الشعوب العربية وهم الاستقلال بينما هي ما تزال في الحقيقة شبه مستعمرة.
خرجت فرنسا من تونس لكنها سلمت البلاد لمن يحكم تونس نيابة عنها ويضمن استمرار تبعية تونس لها في كل شيء، ولم يكن الحكام وحدهم من يعمل لحساب فرنسا هناك، بل حرصت فرنسا على الإمساك بخيوط التحكم بالجيش التونسي بحيث لا يستطيع أي حاكم أن يتمرد على فرنسا لو سولت له نفسه ذلك..وهكذا مرت عشرات السنين والشعب التونسي ينعم باستقلالية معلنة وظاهرية، لكنه مستعمر من قبل وكلاء الاستعمار الذين يضمنون للمستعمر الحد الأدنى من مصالحه بينما يترك لهم الحرية لينهبوا ويفسدوا كما يشاؤون لأنها الطريقة غير المكلفة له لدفع أجورهم.
ثم ذات يوم ثار الناس في تونس، وسقط شهداء، لكن ثورة الجماهير استمرت ووصلت إلى أسماع المستعمر الذي خاف أن تنجح الثورة في القضاء على كل الترتيبات التي مازال يحكم تونس من خلالها فكان لا بد له من إنقاذ الموقف عن طريق الاستجابة لمطالب الجماهير في التغيير سواء تغيير الوجوه أو إعطاء الحريات والديمقراطية.. عندها كان القرار أن ابن علي عليه أن يرحل، وكانت التوجيهات للجيش التونسي أن يتركه يسقط، وأن لا يسانده أبداً في محاولته البقاء . كان الرجل أذكى من غيره فحمل ما خف وزنه وغلا ثمنه ورحل غير مأسوف عليه. وانتصرت ثورة تونس بيسر وسهولة لم تكن تخطر ببال الكثيرين. إنه انتصار جزئي حيث ما زال الجيش التونسي على حاله وهو الجهة الوحيدة في البلاد القادرة على فرض ما تريد وقتما تريد لأن القوة هي الحق كما يقول المثل الإنكليزي. وهذا أبداً لا يقلل من قيمة التغيير الذي حصل في تونس لكن يجب الانتباه إلى أنه جزئي ونسبي ولن يكون جذرياً كما حلم الذين طالبوا به. الأمور لن تصبح مثالية في تونس قريباً، لكنها بالتأكيد ستكون أقل سوءاً، وسيكون الشعب التونسي قد حقق درجة أكبر من الاستقلال عن المستعمر الذي لن يزعجه أن تتحسن معيشة التونسيين وأن يتمكنوا من التعبير السلمي عن آرائهم طالما أن مصالحه الاستراتيجية مضمونة له. ستأتي حكومات منتخبة تعبر عن اختيارات الشعب وستمارس سياسات تنطلق من مصالح الشعب لكن الجيش سيبقى دائماً جاهزاً لإجهاض أية ديمقراطية تهدد مصالح فرنسا وسياستها، أي تتجاوز خطوطاً حمراء بالتأكيد منها أمن إسرائيل والحيلولة دون قيام دولة إسلامية مماثلة للدولة الإيرانية.
ما حدث في تونس جعل المستعمرين يدركون أن الشعب التونسي قد تغير بعض الشيء ولم يعد قابلاً للاستعمار بنفس الدرجة التي كان عليها، وبالتالي لن يتحمل نمط الاستعمار السابق، ولا بد من التراجع أمامه ولو درجة . القابلية للاستعمار مفهوم اعتمد عليه مالك بن نبي رحمه الله في محاولته لفهم واقع بلداننا وتخلفها، وهو مفهوم مهم وصحيح. فبقدر ما يتحمل شعب من الشعوب من استعمار، وبقدر ما تكون الشعوب الغالبة مستعدة لدفع ثمن سيطرتها واستغلالها للشعوب المغلوبة، وبقدر المنفعة المتوقعة من استعمار أمة لأخرى، تتحدد نوعية الاستعمار ودرجته.
انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا واليابان واستسلامهما دون قيد أو شرط، لكن الدول المنتصرة لم تقم باحتلالهما بل اكتفت بقواعد لها في أراضيهما وبفرض قيود سياسية وعسكرية عليهما، بينما نجح البلدان المهزومان في بناء أقوى اقتصادين في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي. لم يمتنع الغالبون عن استعمار ألمانيا واليابان بالطريقة التي استعمروا بها بلادنا كرماً أو أدباً منهم، بل لأن شعبي البلدين غير قابلين لذاك النوع من الاستعمار، ولئن أصر الغالبون عليه فستكون الكلفة عالية جداً، أي هم استعمروهم بقدر ما يتحملون. والمتأمل يمكنه ملاحظة أن اليابان ما تزال غير مستقلة تماماً في سياستها الخارجية عن الولايات المتحدة التي تغلبت عليها . وهذا لا يعني أن وضع اليابان ليس أحسن من وضع البلاد العربية، ولا بد لليوم الذي تتحرر فيه اليابان من جميع آثار هزيمتها من أن يأتي.
أما مصر التي خرجت منها بريطانيا مهزومة وحصلت على قدر كبير من الاستقلالية فقد تم في عهد مبارك أن تحولت إلى شبه مستعمرة أمريكية. فمنذ كامب ديفيد ومصر تنفذ سياسات أمريكا في المنطقة وتتلقى ثاني أكبر مساعدات تقدمها أمريكا إلى دولة أخرى بعد إسرائيل. لكن هذه المساعدات أغلبها مساعدات عسكرية لا لأن أمريكا تريد تقوية مصر عسكرياً، بل لتصل تلك الأموال إلى الجيش المصري الذي صارت رفاهية ضباطه معتمدة على المال الأمريكي، وتحول كبارهم إلى موظفين عند أمريكا يقومون بضمان أمن إسرائيل وحماية النظام الذي ينفذ سياسات أمريكا.
قامت الاحتجاجات في مصر وكانت أمريكا ذكية حيث كان قرارهم منذ الأيام الأولى الاستغناء عن مبارك ومعاونيه من أجل أن تبقى مصر تحت نفوذها، أي تخسر مبارك ولا تخسر مصر. وهكذا كان. منذ الأيام الأولى للاحتجاجات سافر المشير طنطاوي إلى الولايات المتحدة وتكررت تطمينات الأمريكيين أن الجيش المصري لن يطلق النار على المتظاهرين، وأخذ الجيش المصري موقفاً سلبياً جعل مبارك يسقط بسرعة وسهولة، ولو أن الجيش المصري كان يتلقى تعليماته من مبارك لما سقط مبارك، ولكان الذين سقطوا بدلاً عنه عشرات بل مئات الآلاف من القتلى والجرحى. عندما قامت الثورة الإيرانية عام 1979 كانت سلمية مئة بالمئة، وكان المتظاهرون يحملون الورود ويقدمونها للجنود، لكن الجنود كانوا ينفذون أوامر قادتهم ويطلقون النار على المتظاهرين حتى سقط أكثر من سبعين ألف شهيد، عدا عن أضعاف هذا العدد من الجرحى، قبل أن تبدأ حالة من التململ في الجيش الإيراني جعلت الشاه يغادر البلاد، ليقوم مجموعة من السياسيين الذين ترضى عنهم أمريكا بإعلان جمهورية إسلامية، كانت بمثابة نجاح جزئي للثورة الإيرانية التي قبلت بهذا التغيير الجزئي حتى حين، لتقوم بعد أشهر بثورة على الثورة، قامت فيها بتطهير النظام الجديد من كل من له ولاء لأمريكا، والذي ساعد على ذلك أن الثورة الإيرانية كانت منظمة ومخطط لها ولها قيادة موحدة ومطاعة إلى أبعد الحدود بخلاف ثوراتنا العربية الحالية العفوية الارتجالية.
نجحت الثورة في إيران في أن تكون كاملة وجذرية وتحررت إيران من التبعية للغرب تحرراً تاماً، ولا يخفى علينا مقدار الإرباك والإزعاج الذي سببته إيران لإسرائيل والغرب منذ سقوط الشاه. لكن ما حدث في إيران لن يحدث في مصر بل ستبقى مصر تابعة في سياساتها الاستراتيجية لأمريكا، وسيبقى الجيش المصري حارساً للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في مصر حتى لو جاءت حكومات منتخبة تمثل الشعب المصري تمثيلاً حقيقياً ، فهي لن تستطيع أن تخالف الجيش الذي يمسك بزمام القوة والقادر على الإطاحة بأية حكومة لا ترضى عنها أمريكا ولن يصعب عليهم إيجاد المبررات والأعذار لذلك. وحال تركيا وديموقراطيتها المنقوصة التي تعرضت للإجهاض مرات عديدة على يد الجيش التركي كلما تجاوزت الحكومات المنتخبة خطوطاً حمراء عنوانها علمانية الدولة، هذه الحالة تصلح توضيحاً للدور الذي يلعبه الجيش المصري الآن والمتوقع له أن يلعبه لعدة عقود قادمة.
مع ذلك فإن التغيير الذي وقع في مصر جيد وخطوة نحو التغيير الجذري المنشود، لكن التغيير الذي نحلم به لا يمكن أن يتم ما لم يكن التغيير في نفوس المصريين من حيث أفكارهم ومشاعرهم وأخلاقهم تغييرا كاملاً يتخلصون فيه من عللهم الاجتماعية ومن قابليتهم للاستعمار، وقد يحتاج المصريون لبلوغ ذلك إلى أجيال. المهم أنهم يسيرون نحوه والتغيير الذي أنجزوه في نفوسهم يجعلهم جديرين بنظام حكم أقل سوءاً وأكثر حفاظاً على كرامتهم ومصالحهم المعيشية، والأوضاع الجديدة ستساعدهم على المزيد من تغيير ما بنفوسهم لتتغير أحوالهم. فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وتغيير ما بهم يتناسب مع مقدار التغيير الذي حققوه في نفوسهم.
الوضع في ليبيا واليمن مختلف حيث يمسك الحاكم بعوامل القوة في البلاد ويضمن للمستعمر تحقيق السياسات التي يريدها مقابل أن يتركه يفعل ما يشاء ويساعده على القضاء على خصومه السياسيين بغض النظر عن المباديء والقيم، فالغربيون منافقون بما يخص حقوق الإنسان، وكما قال الشاعر، فإن قتل شخص واحد منهم جريمة لا تغتفر، بينما قتل شعب آمن منا قضية فيها نظر.
الغرب خائف من مجيء حاكم لا يكون مخلصاً لهم مثل علي عبد الله صالح، لذا تراهم لا يدعمون الحراك الشعبي دعماً حقيقياً، بل يدعون إلى تغيير يتحكمون به، تعبر عنه المبادرة الخليجية ،مع أنه صار واضحاً أن استمرار علي عبد الله صالح ليس في صالح أحد. لو كان الجيش اليمني يتلقى التعليمات من دولة أجنبية لسقط علي عبد الله صالح ربما بنفس السرعة والسهولة التي سقط فيه ابن علي ومبارك، لأنه وقتها لن تتردد القوى الاستعمارية في تغييره إرضاء لشعب صار واضحاً أنه الآن أكثر وعياً وأقل جبناً. ولو كان البديل عن صالح جاهزاً لما تمكن صالح من العودة إلى اليمن بعد أن خرج منها مصاباً، لكن ما زال في ظن هذه القوى أن صالح خير من غيره ريثما تتم ترتيبات لإحداث تغييرات ترضي الناس جزئياً دون أن تكون جذرية تهدد مصالح الغرب في اليمن والمنطقة.
أما القذافي الذي كان الغرب مقتنعاً أن من الخير أن يرحل فإنه ما يزال حتى الآن يقاوم، وله أنصار يقاتلون من أجله، وإن كان في حكم المنتهي. لكن علينا التفكر في الذي جعل سقوط مبارك وابن علي بتلك السهولة بينما سقوط حاكم بغيض وغير سوي من الناحية النفسية يحتاج إلى كل الدماء والأموال التي بذلت.
في سورية كان حافظ الأسد رجلاً قوياً ماكراً ويمسك بزمام الأمور بنفسه، ومتحكماً من خلال أجهزة أمنية متعددة تتجسس على بعضها البعض، يساعده بذلك اعتماده على الطائفة العلوية التي استطاع أن يربط رفاهها واستمتاعها بمميزات لم تحظ بمثلها في التاريخ ببقائه هو وأسرته في السلطة. كان حافظ الأسد يقدم لفرنسا ما تريده من سياسات وتعاون وتحقيق أهداف، وإن كان في الظاهر مستقلاً وممانعاً. الأمر الذي أسكتهم عنه وجعلهم يتركونه في السلطة دون أن يعينوا عليه خصومه ودون أن يحاولوا جادين شراء ولاء الجيش والأمن في سورية.. فقد كان معهم كما يريدون ابتداءً من تقديم الجولان لإسرائيل إلى الوقوف مع التحالف الدولي ضد العراق وإقناع إيران بالحياد وقتها، وذلك عندما قررت فرنسا الانضمام إلى أمريكا في حرب تحرير الكويت، ورضيت بحصة من الغنيمة، بعد أن كانت تحلم ببترول العراق والكويت من خلال دعمها لصدام. مات حافظ الأسد وجاء خير أبنائه ليحل محله، بعد أن رد الله عن السوريين البلاء الذي كان سيقع عليهم لو كان باسل - بما فيه من كبر وتجبر وعدوانية - مكانه. بشار كان أطيب أولاد حافظ، ومن طيبته قيل أنه كان يقال عنه في المدرسة الثانوية الأهبل. لم يكن أهبلاً على الحقيقة، فذكاؤه واضح، لكنه لم يكن عدوانياً ولا فاسد الطباع مثل إخوته أو عمه سيء الصيت رفعت. كان متوجهاً للطب والمعلوماتية وليس له أية طموحات سياسية، ولعل عيب النطق بحرف السين ساعده على أن لا يكون متكبراً متغطرساً كبقية العائلة. وكان من طيبته مؤمناً بما كان يعلنه والده من قومية ومقاومة لمشاريع الاستعمار وإسرائيل في المنطقة، فصار يتصرف بما يخالف مصالحهم، فأغضبهم إلى حد أصبحت فيه فرنسا ألد أعداء سورية ومتحالفة مع أمريكا جورج بوش الابن في سعيها لإسقاط النظام السوري وبخاصة بعد مقتل الحريري.
بشار الطيب أو الأهبل كما وصفه من كان معه في المدرسة، حاول أن ينتقل بسورية إلى مرحلة من الحرية والديمقراطية النسبيتين، فكان ربيع دمشق المعروف، الذي يقال أن خدام كان أشد المعارضين له والأكثر حرصاً على إنهائه. وانتهى ربيع دمشق، وأدخل الحرس القديم في نظام الأسد والمنتفعون الجدد بشاراً في إحباط تلو إحباط، حتى اقتنع بطريقتهم واستسلم لهم، ورضي بجمع المال، فصار واجهة جميلة لنظام قائم على عصابة أمنية تسيطر على المدنيين والعسكريين في البلاد، ولا تفهم من السياسة شيئاً، بل هي كالوحوش لا تعرف إلا الافتراس والتعامل بالظفر والناب.
طيبة بشار وتهذيبه أكسباه حب الكثيرين من جماهير السوريين والعرب الذي كانوا لا يحبون أباه، وبالتدريج استوعب بشار الدرس وبدأ يقدم لفرنسا وغيرها ما تريد، فانتهت حالة العداء التي كانت بين سورية وفرنسا، وصار طالب الشهادة الثانوية في سورية مطالباً بدراسة لغتين أجنبيتين الفرنسية إحداهما، رغم الميل العروبي القوي لدى السوريين بما فيهم العلويون، ولعل تلك المكاسب الثقافية لفرنسا كانت بعض الثمن الذي قدمه بشار ونظامه لاسترضائها. وعلينا أن نذكر أن الحكومة الفرنسية الاستعمارية التي كانت تحكم سورية أعلنت ولاءها لألمانيا عندما احتلت ألمانيا فرنسا في الحرب العالمية الثانية، مما جعلها عدوة للحلفاء، فدخل الجيش البريطاني ليحرر سورية من أتباع ألمانيا وليبقى فيها حتى تم إنهاء الانتداب الفرنسي على سورية بقرار أممي، فخرج الفرنسيون من سورية مهزومين، وكانت المكاسب الثقافية من نصيب بريطانيا ولغتها اإنكليزية رغم أن الاستعمار كان فرنسياً. وبعد الاستقلال استمر الصراع بين بريطانيا وفرنسا على سورية وكانت الانقلابات الكثيرة التي عرفتها سورية بسبب هذا الصراع ومظهراً له، إلى أن جاء حافظ أسد وطائفته، وحُسمت الغلبة لصالح النفوذ الفرنسي، وبدأت من وقتها فرنسا تحقق مكاسب ثقافية متزايدة في سورية.
بدأت الاحتجاجات في سورية بهتافات في الحريقة بدمشق اعتراضاً على غطرسة رجل شرطة وتعامله المهين لبعض المواطنين، لكن وزير الداخلية وقتها كان حكيماً واستطاع تهدئة الناس وامتصاص غضبهم، ولم أكن أتوقع أن يتجرأ أو قل يتهور غير من تهور ويخرج في احتجاجات علنية أخرى، إلى أن قام فتية في درعا بالكتابة على الجدران (جاك الدور يا دكتور) وما شابه، وبدأ القمع الوحشي المستكبر الذي لا يحترم قيماً ولا أدياناً ولا مقامات، ولا يرى أية خطوط حمراء أمامه.. مما استثار السوريين الذين خرجوا يرددون (الشعب السوري ما بينهان) و(الموت ولا المذلة).. وتفتقت عبقرية كبار رجال الأمن عن خطة لمواجهة الانتفاضة، تسرب ملخص لها وكان محضر جلسة لهم، لكنه لم ينل حقه من الاهتمام، ربما ظناً أنه قد يكون مفبركاً، لكنني أعتقد أنه كان حقيقياً، والأحداث حتى اليوم تؤكد أنه هو المتبع والمطبق في مواجهة النظام لثورة الشباب السوري. وتبين من هذا المحضر ومن سلوك النظام ولجوئه إلى حثالة الطائفة العلوية الذين جمعتهم عائلة الأسد حولها كعصابة لإرهاب الناس وفرض سيطرتها عليهم خارج القانون والأجهزة الرسمية وهم المسمون "الشبيحة"، تبين أن النظام ليس فيه من أصحاب القرار من يفهم شيئاً في السياسة وفن التعامل مع الشعب ومع أزمة مثل الاحتجاجات الشعبية السورية. فكان في كل تصرف أحمق من تصرفاتهم، وتصرفاتهم كانت كلها حمقاء، استفزاز لمشاعر السوريين وكشف لحقيقة النظام التي كانت خفية على الكثير من السوريين الذين ما كانوا يتصورونه بهذا السوء، وكانوا مخدوعين به وبكلامه ويؤيدونه، لأنه يبدو لهم أحسن الأنظمة العربية موقفاً من قضايا الأمة، وأكثرها حرصا على مصالحها ومقاومة للمؤامرات عليها. أحبوه لذلك، وغفروا له الكثير، وتغاضوا عن الكثير من عيوبه، فالرمد أهون من العمى.
جاءت أحداث سورية الأخيرة وردود الفعل الهمجية الحمقاء للنظام عليها، لتعري سوأته للجميع، وليراه القريب والبعيد على حقيقته، وليتبين للكل أنه غير صالح لقيادة أمة تفوقت عليه كثيراً في الوعي والإخلاص والأخلاق، وبالتالي لا يمكن أن تبقى راضية به يتحكم بمقدراتها ومصيرها ويرسم لها سياساتها. وهكذا فقد النظام وعلى رأسه بشار الكثير من شعبيته إن لم يكن قد فقدها كلها عند السوريين غير العلويين. لقد سقط النظام أخلاقياً وفقد احترام الذين كانوا يظنون به خيراً، وتبين للجميع جهله وحمقه وعجزه عن القيام بشؤون الوطن في هذه المرحلة وفي قادم الأيام.
المشكلة في سورية، وربما النعمة الكبرى، هي أن استقلال سورية عن فرنسا والقوى الاستعمارية الأخرى استقلال حقيقي إلى حد لا بأس به، وليس لأي من هذه الدول على الجيش والقوى الأمنية المتحكمة بالبلد سلطة الأمر والنهي كما هو الحال في مصر أو تونس. لذا طال الأمر وقد يطول أكثر مما نتمنى، وذلك لأن النظام الذي قام على الطائفة العلوية وحاباها ومكّن أراذلها من الاستعلاء والتجبر على باقي السوريين جعل هذه الطائفة لا تتصور حياتها من دونه وتخشى على مستقبلها إن هو سقط.
النظام يستخدم الطائفة العلوية ويقوم عليها لا من حيث هي طائفة دينية تربطها وتحركها معتقدات مشتركة، بل من حيث هي أسر وعشائر مترابطة ويمكن أن يثق النظام بولائها. والسؤال الآن ما الفرق؟ الفرق هو أن العلويين طائفة محددة ومعرفة على أساس معتقدات دينية معينة، لكن هذه الطائفة قليلة التدين ولا تحركها إيديولوجيا دينية، هم في الغالب الأعم غير متدينين لا وفق عقيدة أجدادهم ( التي تؤمن أن الله نزل إلى الأرض واختلط بالبشر على هيئة رجل هو علي بن أبي طالب وبالتالي علي هو الله وليس مجرد ولي الله كما هو عند الشيعة )، ولا هم متدينون وفق عقائد إسلامية أخرى إلا قليلاً منهم. إنهم متسلطون على سورية لا من أجل تغليب معتقدهم، فكثير منهم قد لا يؤمنون به، وبخاصة أن أغلب المتعلمين منهم تعلموا الإسلام السني معنا في المدارس، ولم يكن لديهم تعليم ديني منزلي يعاكس ما تعلموه في المدارس، اللهم إلا في بعض الأسر في قراهم، وهذا ناتج عن ضعف التدين عندهم عموماً، مما كان له أثر إيجابي في بلوغ دعوة الإسلام غير المحرفة إلى جميع من درس منهم في المدارس ونجا من الضغوط العائلية التي تصر على معتقدات غير التي تلقوها في المدارس.
أقول هذا لننتبه إلى أن الطائفة العلوية الآن تشكل مشكلة للتغيير في سورية لا من منطلق ديني راسخ يصعب التعامل معه، بل من منطلق ولاء قبلي وعائلي تقويه المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة والمكتسبة من خلال ترابطهم ومحاباة بعضهم بعضاً في الوظائف الحكومية والمناصب وغير ذلك من طرق الانتفاع من السلطة. أي بكل بساطة مشكلتنا معهم ليست دينية ، إذ لو تسلط على الحكم أهل مدينة أخرى أو عشيرة معينة لتصرفوا بنفس الطريقة سواء كانوا مسلمين سنة أو مسيحيين أو غير ذلك، فالمشكلة هي الاستئثار بخيرات البلد، وهذا يقع فيه من يغلب على حكم بلد ما أياً كان معتقده، ما لم يكن في تقوى الأنبياء أو الصحابة، أو ما لم يكن نظام الحكم لا يسمح بذلك من خلال وجود رقابة شعبية ومساءلة حقيقية.
العلويون في سورية تحركهم النزعة القومية العربية، وتحركهم مطامعهم الحياتية التي تحرك جميع البشر، كالسعي إلى الثراء والجاه والمتعة في إطار من ضعف الوازع الديني لديهم.
في وضع كهذا فإن الصراع مع الطائفة العلوية من منطلق ديني وطائفي سيكون مفيداً للنظام لا لأحد سواه. فمعاداتهم من منطلق ديني سيدفعهم إلى العودة إلى معتقداتهم القديمة لا قناعة بها، بل من منطلق التعصب للدفاع عن الذات والتوحد مع البقية، وهذا سيكون تراجعاً في حالتهم الدينية، بدل الذي نتمناه لهم وهو أن يثبتوا على العقيدة السليمة التي تلقوها في المدارس. إن معاداتهم على أساس المعتقد الديني سيجعلهم حريصين عليه بغض النظر عن مدى اقتناعهم به، وهذا سيحولهم فعلاً إلى طائفة دينية منغلقة على نفسها وولاؤها لنفسها، ويصبح من الصعب عليهم الشعور بالولاء لسورية ككل، كبلد ينتمي إليه أهله بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، إنما هم أسرة واحدة مترابطة وكل له دينه الخاص، لكن مصلحتهم هي في العيش المشترك، وهم شركاء في الوطن، ولهم حقوق متساوية فيه، وكلهم يحرص عليه ويسعى لخيره.
ثم إن معاداة العلويين على أساس المعتقد الديني يعني أن تتحول الثورة من ثورة سورية شعبية من أجل الحرية والديمقراطية إلى ثورة طائفية سنية مخيفة لباقي السوريين من مسيحيين ودروز وإسماعيلية وغير ذلك، وهذا سيجعل هؤلاء يفضلون البقاء تحت نظام فاسد وظالم لكنه يعاملهم كمواطنين متساوين -ولو نظرياً - لا كأقليات في بلدهم، وسيجعلهم يقفون مع النظام ويحاربون الثورة، رغم أنهم غير راضين عن النظام، وليسوا مستفيدين منه كثيراً. وهذا يفسر لنا سبب حرص النظام على تحويل القضية إلى صراع سني علوي كالذي كان في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، حيث كانت هنالك حركة إسلامية مسلحة ليس لها امتداد شعبي واسع تحارب النظام من منطلق أنه نظام طائفي كافر. ويرينا أهمية أن لا نرجع إلى الوراء بعد أن نضج وعينا السياسي واقتنعنا أن مصلحتنا جميعاً هي في العيش المشترك على أساس المواطنة لا على أساس الانتماء الطائفي أو الديني.
كما إن استعداء الطائفة العلوية على أساس طائفي لا تستطيع الطائفة تغييره، فهي لن تغير مذهبها لترضي السنة مثلاً، وبالتالي تصبح الطائفة أمام تهديد وجودي، يجعلها تدافع عن نفسها وعن النظام الذي ستتوحد معه بشكل كامل دفاعاً مستميتاً، بل لنقل مميتاً، لأن القوة العسكرية في سورية مركزة بيد ضباط علويين، وهذا يعني اضطرار الطائفة إلى مذابح تسحق ثورة الشباب سحقاً.
يجب على الثائرين الحذر من أي انزلاق نحو الطائفية، لأنه سيجعل البلد جبهتين: السنة مقابل اتحاد العلويين مع الدروز والمسيحيين والإسماعيلين والعلمانيين بكافة توجهاتهم الفكرية والسياسية، وهو ما يتمناه النظام لأنه بذلك سيتغلب على الثورة ويقضي عليها قضاء لا تقوم بعده في ثلاثين سنة أخرى.
كما إن تحول الثورة إلى طائفية سيفقدها كل تأييد دولي اللهم إلا تعاطف السعودية، لأنها لا يمكن أن تصطف ضد الطائفة السنية، لكنها لن تدعم ثورة طائفية ولو كانت سنية إلا دعماً ضعيفاً لرفع العتب والملامة لا أكثر. الثورة الآن ولأنها ثورة وطنية وشعبية تطالب بحقوق جميع السوريين في حياة حرة كريمة وليست ثورة أصولية إسلامية ولا ثورة معادية للغرب قد اكتسبت تعاطف وتأييد أغلب الدول والشعوب.
سمعت الشيخ العرعور يقول إن الثورة إن نجحت ستعامل العلويين وغيرهم من الأقليات بالحسنى كما عامل عمر بن الخطاب اليهود في المجتمع المسلم، وهذا رأي غير موفق، لأن عمر بن الخطاب تسلم السلطة بعد انتصار المسلمين وتغلبهم على من سواهم بالسلاح، أما الوضع المماثل لوضعنا الآن فهو وضع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما هاجر إلى المدينة وأسس دولة فيها كان لليهود فيها وضع المواطنة الكاملة، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فهم أصحاب البلاد والمسلمون مثلهم، إضافة إلى المهاجرين من مكة وأعدادهم محدودة، وعلينا في هذا العصر تذكر أننا لسنا غزاة فاتحين، بل نحن أبناء وطن واحد نتشارك أرضه وسماءه وخيراته مع إخوة لنا قد يختلفون عنا بالدين أو المذهب لكن لهم علينا حق البر كما لآبائنا وأمهاتنا علينا حق البر، وليس ذلك كرماً ولا تسامحاً منا معهم، فنحن لسنا أحق بالبلاد منهم ، أما اختلاف الدين والرأي، فالأصل أنه لا إكراه في الدين، ومن حقنا وحقهم أن تكون لنا ولهم حرية الاعتقاد وممارسة المعتقد في إطار قانون ينظم علاقتنا ببعض فلا يطغى جانب على جانب. ولنتذكر أنه لو كان هنالك مسلم وأمه أو أخوه مشرك -ولا أقول كتابياً، حيث لأهل الكتاب وضع مفضل في الإسلام- فإن عليه بره أو برها، ولا يحرم حتى الشرك أو الإلحاد أهلنا من حقهم في برِّنا، وهو ليس تفضلاً منا عليهم، بل حق لهم، علينا أداؤه بلا منَّة.
رغم اختلاف الدين والمعتقد بين الرسل وأقوامهم الذين قص علينا ربنا في القرآن قصصهم، ورغم معاندة هذه الأقوام للدعوة واعتدائها على رسل الله حتى استحقت من الله الإهلاك والدمار، يصر القرآن الكريم على أن الرسل هم إخوان لأولئك الذين كفروا وعاندوا، وحتى لوط الذي أرسل إلى قوم غير قومه، فقد وصفهم الخالق أنهم إخوان لوط.
نحن في حاجة إلى إعادة فهم علاقتنا بأبناء أمتنا الذين نشترك معهم في وطن واحد، لنتخلص من أفكار غير ناضجة انتشرت عند بعض المتدينين وجعلتهم يحلمون بدولة إسلامية خالصة للمسلمين، كالدولة التي يحلم بها اليهود ويريدون أن يعترف لهم العالم أن إسرائيل دولة يهودية، ليكون العرب فيها ضيوفاً وهم أصحاب البلاد الأصليين. علينا نحن الذين ننتمي للأكثرية الدينية في سورية أن نضع أنفسنا مكان باقي أبناء وطننا الذين ينتمون لأديان أو مذاهب أخرى ولا يشكلون أكثريات عددية، لنحس بأحاسيسهم ونفهم مخاوفهم ولا نستغرب إصرارهم على حق المواطنة المتساوية معنا.
أما النظام الذي يتصرف بمنتهى الغباء السياسي، والمتوقع له أن يستمر في غبائه المتأصل فيه، فقد خسر الكثير من رصيده عند أغلب السوريين من جميع الطوائف وعند بعض العلويين أنفسهم ، وهو باستمرار أخطائه وجرائمه التي يقع فيها كل يوم سيخسر شعبيته عند الطائفة العلوية، التي سيأتي يوم تخشى فيه على مصيرها مع تورط بعض أفرادها في جرائم بشعة ضد باقي السوريين لا يبررها شيء، بخاصة إن نجحت الثورة في البقاء ثورة لا عنف وثورة سلمية مئة بالمئة، لا تمسك ولا حتى حجراً أو عصاً، بل ثورة التزام بكفِّ الأيدي، كما التزم المسلمون في مكة قبل الهجرة كفّ أيديهم رغم كل الأذى والتعذيب الذي تعرضوا له، لكنهم لم يمدوا أيديهم ولا حتى للدفاع عن أنفسهم.
صحيح أن من مات دفاعاً عن نفسه أو عرضه أو ماله فهو شهيد، لكن هذا مختلف عن الخروج للقول للظالم يا ظالم كما هو حال المتظاهرين في سورية، فإنهم عليهم كفُّ أيديهم وعدم الدفاع عن أنفسهم بأي نوع من السلاح لأنهم بذلك يتحولون إلى خوارج ويفقدون مكانة المجاهد بكلمة حق عند سلطان جائر. لا تستغربوا أن لا يكون للمتظاهر حق في أن يدافع عن نفسه ضد من يتعمد قتله أو إيذاءه، فالموقف مختلف عن الدفاع عن النفس والعرض والمال تجاه لص أو قاطع طريق. إن الخروج في المظاهرات السلمية جهاد، والموت فيها استشهاد لا شك فيه، ومن كان مستعداً للموت في سبيل الله فليقدم عليه، ولا يفسده ببسط يده إلى عدوه لا بسلاح ولا غيره، لا من قبيل الهجوم ولا من قبيل الدفاع. إنك بمجرد أن تبسط يدك لتضرب أو تقتل ولو دفاعاً عن نفسك فإن الموقف كله سيفقد تأثيره في الناس وباقي الشعوب وسيصبح موقف مصارعة لدى الناس رغبة في معرفة من الغالب فيه ، والغالب كما يقال ذنبه مغفور، فالدنيا بطبعها تميل مع المنتصر والغالب بغض النظر إن كان ظالماً أو مظلوماً.
إن الثورة إن لجأت إلى السلاح ولو مجرد قبضات أيدي أبنائها العزلاء تكون قد دخلت مع النظام في مباراة هو الفائز فيها حتماً ويقيناً، لأن العنف هو اللعبة الوحيدة التي يجيدها، والسلاح الذي بيده لا مقارنة بينه وبين ما يمكن لمعارضة مسلحة أن تمتلكه، والتنظيم والتدريب لديه لا يمكن لمعارضة شعبية أن تتفوق عليه فيهما، ولا تخدعنا انتصارات الليبيين فالحال مختلف تماماً. إن إصرار الشباب على التظاهر وتلقي الرصاص الحي بصدور عارية وإيصال صورة ذلك وخبره إلى باقي السوريين وباقي شعوب الأرض هو الذي سيسقط النظام، ولن يستطيع النظام مقاومته والقضاء عليه. . فسلمية الثورة تجعل الصراع والمنافسة والمباراة في شيء لا يمتلكه النظام ولا يقدر عليه، فهو إما أن يسمح بالتظاهر دون أن يقتل المتظاهرين وعندها ستخرج المظاهرات المليونية وهذا ما يخشاه، أو أن يستمر الحال على ما هو عليه الآن مظاهرات خاطفة أو طيارة كما سماها ياسين الحاج صالح يتم فيها الهتاف والتصوير والنشر ثم الهروب مع ما يمكن أن يسقط فيها من شهداء أو مصابين، وهذا يعني أن تتفاعل الأمور أكثر فأكثر، فيضطر العقلاء من الضباط العلويين الممسكين بمواطن القوة في البلاد إلى أن ينقذوا أنفسهم وطائفتهم من مصير مخيف، وذلك بأن يتخلصوا من النظام الذي سيكون يومها عبئاً ثقيلاً جداً على الطائفة العلوية، وستتخلى عنه حفاظاً على نفسها ومكتسباتها، فالإنسان مستعد للتضحية حتى بعينه إن صارت مصدر خطر على حياته.
العلويون هم الآن الأمل وطوق النجاة الوحيد للنظام، ما لم تتحول الثورة إلى مسلحة أو طائفية ( سنية ضد علوية )، والعلويون هم من سينقذ سورية من نظام تغوَّل ومستعد أن يضحي بهم جميعهم ليبقى في الحكم. النظام ليس فئة ذات عقيدة حقيقية تدافع عنها وتموت في سبيلها، سواء كانت عقيدة صحيحة أو فاسدة من المنظور الديني، إنه عصابة ممن يستأثرون بخيرات البلاد والعزة فيها لتكون لهم الكبرياء في الأرض من دون الناس، وللكبرياء لذتها، وللثروة إغراؤها، وهم مستعدون للتضحية حتى بأبناء طائفتهم، لأنهم لا يهمهم إلا أنفسهم، ولو كان لديهم خلق أو ضمير لما ارتكبوا ما يرتكبونه كل يوم من جرائم بشعة أذهلت البعيد والقريب.
أنا على يقين وإن كان لا يعلم الغيب إلا الله ، أنا على يقين أن الطائفة العلوية سوف تتخلى عن النظام ولو بعد حين، لأن الطائفة بشر مثل باقي السوريين لهم آمالهم ومخاوفهم وتهمهم أنفسهم ومستقبل أجيالهم ويفكرون بمنطق كما نفكر، ويوماً بعد يوم سيتكشف للعلويين كذب النظام وزيف ادعائه أنه يواجه مؤامرة خارجية وأن جماعات إرهابية هي التي تقتل المتظاهرين السلميين العزَّل، وستراه الطائفة على حقيقته عصابة من القتلة واللصوص والدجالين، وستشعر بالخوف على مصيرها إن تركته مرتبطاً بهذا النظام الذي يورطها كل يوم بمزيد من الجرائم يرتكبها حثالة الطائفة ويتحمل وزرها كل الطائفة.
هذا ليس استعطافاً للطائفة إنما هو توقع لما ستصل إليه الأمور، لأن سنن الله في خلقه لا تتخلَّف سواء في الطبيعة أو النفوس والمجتمعات. المظاهرات حتى لو كانت مليونية لن تسقط نظاماً من أناس لا حياء عندهم -وإن لم تستحِ فاصنع ما شئت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. إن المظاهرات لن تسقط النظام بفعل صرخات المتظاهرين، إنما ستسقطه لأنها تجبره على التصرف بوحشية لا يبررها شيء، وعلى ارتكاب المزيد من الجرائم، وزيادة العيار كل يوم على أمل أن ينجح في إعادة الخوف إلى النفوس.. ضحاياه هم الذين سيقضون عليه وإن بغير أيديهم، وكما قيل من مأمنه يؤتى الحذِر.
صحيح أن النظام يرعبه الانشقاقات في الجيش لأن الانشقاقات إن كثرت فسينفرط عقد الجيش ويتحول إلى فوضى مخيفة ، لكن النظام لا يخاف من تحول الثورة الشعبية إلى مسلحة، بل يتمنى ذلك لتتغيير قواعد اللعبة وندخل في لعبة يجيدها هو ومتمرس عليها ولديه كل مقومات الفوز فيها فوزاً ساحقاً. لذا علينا بذل كل شيء لتبقى أيدينا مكفوفة، ولتبقى ثورتنا سلمية مئة بالمئة، ولا حاجة هنالك لأي عسكري يريد حماية المتظاهرين من بطش رجال الأمن والشبيحة، فمن يريد الحماية من هؤلاء المتظاهرين يمكنه لزوم داره وهم لن يأتوا إليه. أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وسيد الشهداء رجل قام إلى إمام (أي حاكم) جائر فوعظه فقتله، أي لم يزد هذا المجاهد على قول الحق بلسانه، فقتله الحاكم الظالم وأوصله إلى مرتبة سيد الشهداء.
إن الخروج في المظاهرات السلمية والمشاركة في الفعاليات السلمية للثورة السورية جهاد في سبيل الله يكتب الله الأجر لمن يشارك فيه ولا يلوم من يخاف على نفسه فيمتنع عن المشاركة طالما أن قلبه مع إخوانه المجاهدين من أجله وأجل أنفسهم، لذا لا مبرر لأي عنف من أجل حماية المتظاهرين..إنما هو جهاد الكلمة والاستعداد للموت في سبيل إيصالها ، والله يعطي عليه جنة عرضها السماوات والأرض، وما أحسب المتظاهرين يريدون فعلاً من يحمل السلاح ليدافع عنهم، فقد خرجوا ليقولوا كلمة الحق ويموتوا من أجلها، ولا يريدون حماية أحد إلا ربَّ العالمين.
وهذا يوصلنا إلى موضوع الحماية الدولية ومطالبة بعض المتظاهرين بها لأنهم ظنوا أن لا أمل إلا فيها، ولأنهم غالبهم جماهير طيبة لا تعرف مكر الساسة وأطماع الدول في خيرات غيرها. إن الحظر الجوي لن يحمي المتظاهرين من جرائم الشبيحة والمخابرات، فالحظر الجوي على جنوب العراق وشماله بعد حرب تحرير الكويت عام 1991 لم يمنع صدام من ارتكاب مجازر بحق أهل البصرة لما انتفضوا عليه، بل مهد لتقسيم العراق ولم يضمن أية حماية للمنتفضين. وحتى القصف الجوي المركز لم يضمن سلامة الليبيين، فالذين قتلوا بعد بدئه أضعاف الذين قتلوا قبله، عدا عن إنه يفقد الثورة طابعها السلمي الذي لا يعرف النظام كيف يتعامل معه، إضافة إلى أن القصف الجوي لن يستطيع انتقاء الشبيحة ورجال المخابرات ليقضي عليهم ويحمي الناس من أذاهم. أما الاحتلال الأجنبي فاسألوا العراقيين عنه، ولعل استمرار النظام الحالي مئة سنة خير لنا من الاستعمار والفوضى المدمرة.
لكن مالذي يمكن للدول الأخرى أن تقدم لثورة السوريين السلمية؟
يمكنها الاستمرار في فضح جرائم النظام وإيصال صوت الثوار والمعارضة لباقي السوريين وباقي الشعوب والحكومات، ويمكنها تزويد الثوار بوسائل تمكنهم من كسر الحصار الإعلامي الذي يفرضه النظام وأقلها أجهزة الاتصال التي يمكنها تجاوز أجهزة الاتصالات المحلية، ويمكنها مواصلة وتصعيد ضغوطها السياسية على النظام والتضييق عليه مما سيعجل في شعور الطائفة العلوية بخطورة الوضع الذي يورطها فيه النظام وعندها تنضم إلى الثورة بالطريقة المناسبة لها.
نحن نريد تحسين أوضاعنا لا أن نعالج البلاء ببلاء أشد منه، وعلينا أن نصبر ونواصل الجهاد ونحن موقنون أن الله ناصرنا، لكن لا بد لكل شيء من أسبابه، ولن نتوقع أن ينقذنا الله كما أنقذ إبراهيم من النار بأن غير طبيعتها فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم. لا بد للعوامل أن تجتمع وتتفاعل ليحدث التغيير والنصر. وإنه وإن كان التغيير المتوقع ليس جذرياً، ولا يعني إزاحة الضباط العلويين نهائياً عن سيطرتهم على الجيش، لكنه بالتأكيد يعني تحرر الناس من تسلط ضباط الأمن والمخابرات وتدخلهم في جميع أمور السوريين، وتمتعهم بحصانة تمكنهم من ارتكاب الجرائم بحق المواطنين دون مساءلة أو عقاب، والتغيير غير الجذري المتوقع سيعطي الناس حرية التعبير عن آراهم والمشاركة السياسية وسيأتي بأناس منتخبين يتولون إدارة شؤون البلاد والعباد منهم الصالح والطالح، لكن سيكون هنالك تداول وإمكانية لفضح السارق ومقاضاته. لن تسمح القوى العظمى لحكم ثوري جذري معادٍ لها ويهدد إسرائيل تهديداً حقيقياً، فعندها ستدعم بقاء النظام الحالي ولن نهمهم في شيء، كما إنني أتوقع أن يتم أي عمل إنقلابي يقوم به الضباط العلوييون ومن معهم من أبناء الطوائف الأخرى بالتنسيق إن لم يكن بدعم ومؤازرة الدول الغربية وبخاصة فرنسا، التي بالتأكيد لها اتصالاتها بضباط الطائفة العلوية المتنفذين في الجيش والأمن.
علينا ترسيخ قناعتنا بقضية المواطنة لكل السوريين على اختلاف أديانهم، وأنه حتى لو وصل إسلاميون إلى السلطة عندما تعود سورية ديمقراطية فإنهم لن يفرضوا الحجاب على أحد.. فالتاريخ والفقه الإسلامي يؤكدان أن بلاد المسلمين في عصور الخلافة الإسلامية كانت تخرج فيها ملايين النساء وكثير منهن سافرات، فما لا يعرفه كثيرون أن الإسلام لا يفرض الحجاب على المرأة إن كانت مملوكة وليست حرة، جميلة كانت أو غير جميلة، ولا يحمي الرجال من فتنة النساء بتحجيبهن بالإكراه، بل على الرجال غض أبصارهم . ألم يكن في الجواري الجميلات من كل الجنسيات السافرات فتنة لمن لا يغض بصره من الرجال المسلمين؟ الحجاب يحمي المرأة المسلمة من أن ينظر إليها الرجال كجسد وينسون الإنسان فيها، لذا ترك وجهها تكشفه للجميع لأنه موضع الإنسانية حيث تلتقي الأبصار بالأبصار، أما الجارية التي تشترى بالمال فلا معنى لتكليفها بحجاب يصونها من أن تعامل كجسد وهي تُقَيَّم بالمال وتورث كما تورث الأشياء، أما إن تحررت، فعندها يكون لحجابها معنىً. تركيا الآن تحكمها فئة مؤمنة غير قادرة على فرض أي قيود دينية إجتماعية على الناس حتى لو أرادت، لكنها ولأنها فئة من الناس الذين لا يسرقون مال الأمة ولا يخونونها، استطاعت أن توصل تركيا إلى مرتبة الدولة العشرين عالمياً في الاقتصاد خلال بضع سنوات لا غير. علينا أن نطمئن غير المتدينين وغير المسلمين أن الثورة ليست كثورة إيران دينية متعصبة، بل هي ثورة الأمة السورية كلها ومن أجل جميع أبنائها، فإنه بدون هذا التطمين ستبقى الطوائف الأخرى مترددة في المشاركة، والثورة بدون مشاركة الجميع فيها لن تحقق التغيير المنشود، ولن يتحقق أي تغيير مهم ما لم تنضم الطائفة العلوية للثورة ممثلة بجماهيرها وضباطها وزعمائها.
علينا أن لا نتصور كل العلويين أشرار لأن منهم الشبيحة وعناصر المخابرات فهؤلاء ليسوا كل العلويين، والعلويون هم الأكثرون في الأمن لا لأنهم أشرار إنما لأن النظام لا يثق بغيرهم، ولو وثق لوجد الكثير من أبناء السنة والطوائف الأخرى مستعدين للقيام بما تقوم به الشبيحة والمخابرات. كما علينا أن لا نتصور العلويين شياطين أو مستكبرين لأننا تصادف أن واجهنا إساءة من أحدهم أو سمعنا كيف أساء بعضهم الأدب، أو أكل حقوق الناس معتزاً أنه علوي لديه القدرة على إيذاء الناس من خلال الأمن. لو كانت سورية تحكمها قبيلة أو عشيرة أو أهل بلدة من أي دين آخر لظهر من كثير من هؤلاء نوعيات لا تقل حقارة ونذالة عما ظهر من بعض العلويين الذين غرتهم قدرتهم على إيذاء الناس فطغوا وتجبروا. إن الطغيان والظلم لا دين له والبشر يقعون فيه على تنوع قومياتهم أو أديانهم أو طوائفهم. القضية قضية أخلاق قبل كل شيء.. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا. والذي يعرف العلويين عن قرب يعرف أن أكثرهم أناس طيبون ويريدون أن يعيشوا مثل كل السوريين، وأننا لو كنا مكانهم نتمتع بوضع متميز على الآخرين في البلد، من منا كان سيترفع عن المنافع أو الوظائف أو المنح الدراسية أو غيرها لأنها لا تعطي للجميع بالعدل؟ أعتقد أن القليل القليل من كان سيفعل ذلك، وبخاصة أن ما يصل إلى جماهير العلويين من المنافع ليس من قبيل المنافع غير العادية، بل هي غالباً مما يستحقه أي مواطن سوري، اللهم إلا أكابر مجرميها الذين يستأثرون بخيرات البلاد ويحجبونها عن باقي السوريين بما فيهم العلويون. هل سمعتم أن رامي مخلوف وأمثاله يبذلون ملياراتهم للنهوض بحال المناطق العلوية وفقرائهم؟
كل امريءٍ بما كسب رهين، ويوم القيامة يفصل الله بين الناس فيخبرهم من كان منهم على حق ومن كان على باطل، أما في الدنيا فنحن السوريين عائلة واحدة تتعامل بالبر والمعروف فيما بينها وتتعاون من أجل حياة أفضل لجميع أبنائها أياً كانت أديانهم أو قومياتهم.
ما يحدث في سورية: إلى أين؟
بقلم الدكتور محمد ناصح عبد الله
ما كنت أتوقع أن يتجرأ أحد في سورية على الخروج متحدياً النظام السوري ولو بكلمة، لكن ذلك حدث وبجرأة واستبسال رائعين يدلان على أن السوريين تغيروا وصاروا جديرين بحكام أحسن وأقل سوءاً من حكامهم الحاليين.
ما حدث في تونس ومصر شجع الشباب في سورية وأعطاهم الأمل في تغيير واقعهم وأعاد لهم الشعور أن الجهود يمكنها أن تؤثر، وأنه لا بد لنا من التحرر من اليأس والشعور أنه لا جدوى من المحاولة اللذين كانا مسيطرين علينا. لقد كان سقوط ابن علي ومبارك سريعاً وسهلاً ومغرياً للجميع بالمحاولة، لكن الأمور لم تنجح بنفس السهولة في اليمن وليبيا وسورية، ونحن مدعوون للتفكر في العوامل التي أدت إلى النجاح السهل السريع لثورتي تونس ومصر بينما تطلب الأمر دماراً واسعاً وشهداء بعشرات الآلاف وتدخلاً عسكرياً مكلفاً للإطاحة بالقذافي، ولم تثمر المليونيات العديدة في اليمن حتى الآن.
الذي علينا الانتباه له هو أن استقلال الكثير من بلادنا ما زال منقوصاً وما زالت الدول المستعمرة تمارس التحكم بمصائر بلادنا وسياساتها عن طريق التحكم عن بعد وبطريقة غير ظاهرة للعيان بحيث تعيش الشعوب العربية وهم الاستقلال بينما هي ما تزال في الحقيقة شبه مستعمرة.
خرجت فرنسا من تونس لكنها سلمت البلاد لمن يحكم تونس نيابة عنها ويضمن استمرار تبعية تونس لها في كل شيء، ولم يكن الحكام وحدهم من يعمل لحساب فرنسا هناك، بل حرصت فرنسا على الإمساك بخيوط التحكم بالجيش التونسي بحيث لا يستطيع أي حاكم أن يتمرد على فرنسا لو سولت له نفسه ذلك..وهكذا مرت عشرات السنين والشعب التونسي ينعم باستقلالية معلنة وظاهرية، لكنه مستعمر من قبل وكلاء الاستعمار الذين يضمنون للمستعمر الحد الأدنى من مصالحه بينما يترك لهم الحرية لينهبوا ويفسدوا كما يشاؤون لأنها الطريقة غير المكلفة له لدفع أجورهم.
ثم ذات يوم ثار الناس في تونس، وسقط شهداء، لكن ثورة الجماهير استمرت ووصلت إلى أسماع المستعمر الذي خاف أن تنجح الثورة في القضاء على كل الترتيبات التي مازال يحكم تونس من خلالها فكان لا بد له من إنقاذ الموقف عن طريق الاستجابة لمطالب الجماهير في التغيير سواء تغيير الوجوه أو إعطاء الحريات والديمقراطية.. عندها كان القرار أن ابن علي عليه أن يرحل، وكانت التوجيهات للجيش التونسي أن يتركه يسقط، وأن لا يسانده أبداً في محاولته البقاء . كان الرجل أذكى من غيره فحمل ما خف وزنه وغلا ثمنه ورحل غير مأسوف عليه. وانتصرت ثورة تونس بيسر وسهولة لم تكن تخطر ببال الكثيرين. إنه انتصار جزئي حيث ما زال الجيش التونسي على حاله وهو الجهة الوحيدة في البلاد القادرة على فرض ما تريد وقتما تريد لأن القوة هي الحق كما يقول المثل الإنكليزي. وهذا أبداً لا يقلل من قيمة التغيير الذي حصل في تونس لكن يجب الانتباه إلى أنه جزئي ونسبي ولن يكون جذرياً كما حلم الذين طالبوا به. الأمور لن تصبح مثالية في تونس قريباً، لكنها بالتأكيد ستكون أقل سوءاً، وسيكون الشعب التونسي قد حقق درجة أكبر من الاستقلال عن المستعمر الذي لن يزعجه أن تتحسن معيشة التونسيين وأن يتمكنوا من التعبير السلمي عن آرائهم طالما أن مصالحه الاستراتيجية مضمونة له. ستأتي حكومات منتخبة تعبر عن اختيارات الشعب وستمارس سياسات تنطلق من مصالح الشعب لكن الجيش سيبقى دائماً جاهزاً لإجهاض أية ديمقراطية تهدد مصالح فرنسا وسياستها، أي تتجاوز خطوطاً حمراء بالتأكيد منها أمن إسرائيل والحيلولة دون قيام دولة إسلامية مماثلة للدولة الإيرانية.
ما حدث في تونس جعل المستعمرين يدركون أن الشعب التونسي قد تغير بعض الشيء ولم يعد قابلاً للاستعمار بنفس الدرجة التي كان عليها، وبالتالي لن يتحمل نمط الاستعمار السابق، ولا بد من التراجع أمامه ولو درجة . القابلية للاستعمار مفهوم اعتمد عليه مالك بن نبي رحمه الله في محاولته لفهم واقع بلداننا وتخلفها، وهو مفهوم مهم وصحيح. فبقدر ما يتحمل شعب من الشعوب من استعمار، وبقدر ما تكون الشعوب الغالبة مستعدة لدفع ثمن سيطرتها واستغلالها للشعوب المغلوبة، وبقدر المنفعة المتوقعة من استعمار أمة لأخرى، تتحدد نوعية الاستعمار ودرجته.
انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا واليابان واستسلامهما دون قيد أو شرط، لكن الدول المنتصرة لم تقم باحتلالهما بل اكتفت بقواعد لها في أراضيهما وبفرض قيود سياسية وعسكرية عليهما، بينما نجح البلدان المهزومان في بناء أقوى اقتصادين في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي. لم يمتنع الغالبون عن استعمار ألمانيا واليابان بالطريقة التي استعمروا بها بلادنا كرماً أو أدباً منهم، بل لأن شعبي البلدين غير قابلين لذاك النوع من الاستعمار، ولئن أصر الغالبون عليه فستكون الكلفة عالية جداً، أي هم استعمروهم بقدر ما يتحملون. والمتأمل يمكنه ملاحظة أن اليابان ما تزال غير مستقلة تماماً في سياستها الخارجية عن الولايات المتحدة التي تغلبت عليها . وهذا لا يعني أن وضع اليابان ليس أحسن من وضع البلاد العربية، ولا بد لليوم الذي تتحرر فيه اليابان من جميع آثار هزيمتها من أن يأتي.
أما مصر التي خرجت منها بريطانيا مهزومة وحصلت على قدر كبير من الاستقلالية فقد تم في عهد مبارك أن تحولت إلى شبه مستعمرة أمريكية. فمنذ كامب ديفيد ومصر تنفذ سياسات أمريكا في المنطقة وتتلقى ثاني أكبر مساعدات تقدمها أمريكا إلى دولة أخرى بعد إسرائيل. لكن هذه المساعدات أغلبها مساعدات عسكرية لا لأن أمريكا تريد تقوية مصر عسكرياً، بل لتصل تلك الأموال إلى الجيش المصري الذي صارت رفاهية ضباطه معتمدة على المال الأمريكي، وتحول كبارهم إلى موظفين عند أمريكا يقومون بضمان أمن إسرائيل وحماية النظام الذي ينفذ سياسات أمريكا.
قامت الاحتجاجات في مصر وكانت أمريكا ذكية حيث كان قرارهم منذ الأيام الأولى الاستغناء عن مبارك ومعاونيه من أجل أن تبقى مصر تحت نفوذها، أي تخسر مبارك ولا تخسر مصر. وهكذا كان. منذ الأيام الأولى للاحتجاجات سافر المشير طنطاوي إلى الولايات المتحدة وتكررت تطمينات الأمريكيين أن الجيش المصري لن يطلق النار على المتظاهرين، وأخذ الجيش المصري موقفاً سلبياً جعل مبارك يسقط بسرعة وسهولة، ولو أن الجيش المصري كان يتلقى تعليماته من مبارك لما سقط مبارك، ولكان الذين سقطوا بدلاً عنه عشرات بل مئات الآلاف من القتلى والجرحى. عندما قامت الثورة الإيرانية عام 1979 كانت سلمية مئة بالمئة، وكان المتظاهرون يحملون الورود ويقدمونها للجنود، لكن الجنود كانوا ينفذون أوامر قادتهم ويطلقون النار على المتظاهرين حتى سقط أكثر من سبعين ألف شهيد، عدا عن أضعاف هذا العدد من الجرحى، قبل أن تبدأ حالة من التململ في الجيش الإيراني جعلت الشاه يغادر البلاد، ليقوم مجموعة من السياسيين الذين ترضى عنهم أمريكا بإعلان جمهورية إسلامية، كانت بمثابة نجاح جزئي للثورة الإيرانية التي قبلت بهذا التغيير الجزئي حتى حين، لتقوم بعد أشهر بثورة على الثورة، قامت فيها بتطهير النظام الجديد من كل من له ولاء لأمريكا، والذي ساعد على ذلك أن الثورة الإيرانية كانت منظمة ومخطط لها ولها قيادة موحدة ومطاعة إلى أبعد الحدود بخلاف ثوراتنا العربية الحالية العفوية الارتجالية.
نجحت الثورة في إيران في أن تكون كاملة وجذرية وتحررت إيران من التبعية للغرب تحرراً تاماً، ولا يخفى علينا مقدار الإرباك والإزعاج الذي سببته إيران لإسرائيل والغرب منذ سقوط الشاه. لكن ما حدث في إيران لن يحدث في مصر بل ستبقى مصر تابعة في سياساتها الاستراتيجية لأمريكا، وسيبقى الجيش المصري حارساً للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في مصر حتى لو جاءت حكومات منتخبة تمثل الشعب المصري تمثيلاً حقيقياً ، فهي لن تستطيع أن تخالف الجيش الذي يمسك بزمام القوة والقادر على الإطاحة بأية حكومة لا ترضى عنها أمريكا ولن يصعب عليهم إيجاد المبررات والأعذار لذلك. وحال تركيا وديموقراطيتها المنقوصة التي تعرضت للإجهاض مرات عديدة على يد الجيش التركي كلما تجاوزت الحكومات المنتخبة خطوطاً حمراء عنوانها علمانية الدولة، هذه الحالة تصلح توضيحاً للدور الذي يلعبه الجيش المصري الآن والمتوقع له أن يلعبه لعدة عقود قادمة.
مع ذلك فإن التغيير الذي وقع في مصر جيد وخطوة نحو التغيير الجذري المنشود، لكن التغيير الذي نحلم به لا يمكن أن يتم ما لم يكن التغيير في نفوس المصريين من حيث أفكارهم ومشاعرهم وأخلاقهم تغييرا كاملاً يتخلصون فيه من عللهم الاجتماعية ومن قابليتهم للاستعمار، وقد يحتاج المصريون لبلوغ ذلك إلى أجيال. المهم أنهم يسيرون نحوه والتغيير الذي أنجزوه في نفوسهم يجعلهم جديرين بنظام حكم أقل سوءاً وأكثر حفاظاً على كرامتهم ومصالحهم المعيشية، والأوضاع الجديدة ستساعدهم على المزيد من تغيير ما بنفوسهم لتتغير أحوالهم. فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وتغيير ما بهم يتناسب مع مقدار التغيير الذي حققوه في نفوسهم.
الوضع في ليبيا واليمن مختلف حيث يمسك الحاكم بعوامل القوة في البلاد ويضمن للمستعمر تحقيق السياسات التي يريدها مقابل أن يتركه يفعل ما يشاء ويساعده على القضاء على خصومه السياسيين بغض النظر عن المباديء والقيم، فالغربيون منافقون بما يخص حقوق الإنسان، وكما قال الشاعر، فإن قتل شخص واحد منهم جريمة لا تغتفر، بينما قتل شعب آمن منا قضية فيها نظر.
الغرب خائف من مجيء حاكم لا يكون مخلصاً لهم مثل علي عبد الله صالح، لذا تراهم لا يدعمون الحراك الشعبي دعماً حقيقياً، بل يدعون إلى تغيير يتحكمون به، تعبر عنه المبادرة الخليجية ،مع أنه صار واضحاً أن استمرار علي عبد الله صالح ليس في صالح أحد. لو كان الجيش اليمني يتلقى التعليمات من دولة أجنبية لسقط علي عبد الله صالح ربما بنفس السرعة والسهولة التي سقط فيه ابن علي ومبارك، لأنه وقتها لن تتردد القوى الاستعمارية في تغييره إرضاء لشعب صار واضحاً أنه الآن أكثر وعياً وأقل جبناً. ولو كان البديل عن صالح جاهزاً لما تمكن صالح من العودة إلى اليمن بعد أن خرج منها مصاباً، لكن ما زال في ظن هذه القوى أن صالح خير من غيره ريثما تتم ترتيبات لإحداث تغييرات ترضي الناس جزئياً دون أن تكون جذرية تهدد مصالح الغرب في اليمن والمنطقة.
أما القذافي الذي كان الغرب مقتنعاً أن من الخير أن يرحل فإنه ما يزال حتى الآن يقاوم، وله أنصار يقاتلون من أجله، وإن كان في حكم المنتهي. لكن علينا التفكر في الذي جعل سقوط مبارك وابن علي بتلك السهولة بينما سقوط حاكم بغيض وغير سوي من الناحية النفسية يحتاج إلى كل الدماء والأموال التي بذلت.
في سورية كان حافظ الأسد رجلاً قوياً ماكراً ويمسك بزمام الأمور بنفسه، ومتحكماً من خلال أجهزة أمنية متعددة تتجسس على بعضها البعض، يساعده بذلك اعتماده على الطائفة العلوية التي استطاع أن يربط رفاهها واستمتاعها بمميزات لم تحظ بمثلها في التاريخ ببقائه هو وأسرته في السلطة. كان حافظ الأسد يقدم لفرنسا ما تريده من سياسات وتعاون وتحقيق أهداف، وإن كان في الظاهر مستقلاً وممانعاً. الأمر الذي أسكتهم عنه وجعلهم يتركونه في السلطة دون أن يعينوا عليه خصومه ودون أن يحاولوا جادين شراء ولاء الجيش والأمن في سورية.. فقد كان معهم كما يريدون ابتداءً من تقديم الجولان لإسرائيل إلى الوقوف مع التحالف الدولي ضد العراق وإقناع إيران بالحياد وقتها، وذلك عندما قررت فرنسا الانضمام إلى أمريكا في حرب تحرير الكويت، ورضيت بحصة من الغنيمة، بعد أن كانت تحلم ببترول العراق والكويت من خلال دعمها لصدام. مات حافظ الأسد وجاء خير أبنائه ليحل محله، بعد أن رد الله عن السوريين البلاء الذي كان سيقع عليهم لو كان باسل - بما فيه من كبر وتجبر وعدوانية - مكانه. بشار كان أطيب أولاد حافظ، ومن طيبته قيل أنه كان يقال عنه في المدرسة الثانوية الأهبل. لم يكن أهبلاً على الحقيقة، فذكاؤه واضح، لكنه لم يكن عدوانياً ولا فاسد الطباع مثل إخوته أو عمه سيء الصيت رفعت. كان متوجهاً للطب والمعلوماتية وليس له أية طموحات سياسية، ولعل عيب النطق بحرف السين ساعده على أن لا يكون متكبراً متغطرساً كبقية العائلة. وكان من طيبته مؤمناً بما كان يعلنه والده من قومية ومقاومة لمشاريع الاستعمار وإسرائيل في المنطقة، فصار يتصرف بما يخالف مصالحهم، فأغضبهم إلى حد أصبحت فيه فرنسا ألد أعداء سورية ومتحالفة مع أمريكا جورج بوش الابن في سعيها لإسقاط النظام السوري وبخاصة بعد مقتل الحريري.
بشار الطيب أو الأهبل كما وصفه من كان معه في المدرسة، حاول أن ينتقل بسورية إلى مرحلة من الحرية والديمقراطية النسبيتين، فكان ربيع دمشق المعروف، الذي يقال أن خدام كان أشد المعارضين له والأكثر حرصاً على إنهائه. وانتهى ربيع دمشق، وأدخل الحرس القديم في نظام الأسد والمنتفعون الجدد بشاراً في إحباط تلو إحباط، حتى اقتنع بطريقتهم واستسلم لهم، ورضي بجمع المال، فصار واجهة جميلة لنظام قائم على عصابة أمنية تسيطر على المدنيين والعسكريين في البلاد، ولا تفهم من السياسة شيئاً، بل هي كالوحوش لا تعرف إلا الافتراس والتعامل بالظفر والناب.
طيبة بشار وتهذيبه أكسباه حب الكثيرين من جماهير السوريين والعرب الذي كانوا لا يحبون أباه، وبالتدريج استوعب بشار الدرس وبدأ يقدم لفرنسا وغيرها ما تريد، فانتهت حالة العداء التي كانت بين سورية وفرنسا، وصار طالب الشهادة الثانوية في سورية مطالباً بدراسة لغتين أجنبيتين الفرنسية إحداهما، رغم الميل العروبي القوي لدى السوريين بما فيهم العلويون، ولعل تلك المكاسب الثقافية لفرنسا كانت بعض الثمن الذي قدمه بشار ونظامه لاسترضائها. وعلينا أن نذكر أن الحكومة الفرنسية الاستعمارية التي كانت تحكم سورية أعلنت ولاءها لألمانيا عندما احتلت ألمانيا فرنسا في الحرب العالمية الثانية، مما جعلها عدوة للحلفاء، فدخل الجيش البريطاني ليحرر سورية من أتباع ألمانيا وليبقى فيها حتى تم إنهاء الانتداب الفرنسي على سورية بقرار أممي، فخرج الفرنسيون من سورية مهزومين، وكانت المكاسب الثقافية من نصيب بريطانيا ولغتها اإنكليزية رغم أن الاستعمار كان فرنسياً. وبعد الاستقلال استمر الصراع بين بريطانيا وفرنسا على سورية وكانت الانقلابات الكثيرة التي عرفتها سورية بسبب هذا الصراع ومظهراً له، إلى أن جاء حافظ أسد وطائفته، وحُسمت الغلبة لصالح النفوذ الفرنسي، وبدأت من وقتها فرنسا تحقق مكاسب ثقافية متزايدة في سورية.
بدأت الاحتجاجات في سورية بهتافات في الحريقة بدمشق اعتراضاً على غطرسة رجل شرطة وتعامله المهين لبعض المواطنين، لكن وزير الداخلية وقتها كان حكيماً واستطاع تهدئة الناس وامتصاص غضبهم، ولم أكن أتوقع أن يتجرأ أو قل يتهور غير من تهور ويخرج في احتجاجات علنية أخرى، إلى أن قام فتية في درعا بالكتابة على الجدران (جاك الدور يا دكتور) وما شابه، وبدأ القمع الوحشي المستكبر الذي لا يحترم قيماً ولا أدياناً ولا مقامات، ولا يرى أية خطوط حمراء أمامه.. مما استثار السوريين الذين خرجوا يرددون (الشعب السوري ما بينهان) و(الموت ولا المذلة).. وتفتقت عبقرية كبار رجال الأمن عن خطة لمواجهة الانتفاضة، تسرب ملخص لها وكان محضر جلسة لهم، لكنه لم ينل حقه من الاهتمام، ربما ظناً أنه قد يكون مفبركاً، لكنني أعتقد أنه كان حقيقياً، والأحداث حتى اليوم تؤكد أنه هو المتبع والمطبق في مواجهة النظام لثورة الشباب السوري. وتبين من هذا المحضر ومن سلوك النظام ولجوئه إلى حثالة الطائفة العلوية الذين جمعتهم عائلة الأسد حولها كعصابة لإرهاب الناس وفرض سيطرتها عليهم خارج القانون والأجهزة الرسمية وهم المسمون "الشبيحة"، تبين أن النظام ليس فيه من أصحاب القرار من يفهم شيئاً في السياسة وفن التعامل مع الشعب ومع أزمة مثل الاحتجاجات الشعبية السورية. فكان في كل تصرف أحمق من تصرفاتهم، وتصرفاتهم كانت كلها حمقاء، استفزاز لمشاعر السوريين وكشف لحقيقة النظام التي كانت خفية على الكثير من السوريين الذين ما كانوا يتصورونه بهذا السوء، وكانوا مخدوعين به وبكلامه ويؤيدونه، لأنه يبدو لهم أحسن الأنظمة العربية موقفاً من قضايا الأمة، وأكثرها حرصا على مصالحها ومقاومة للمؤامرات عليها. أحبوه لذلك، وغفروا له الكثير، وتغاضوا عن الكثير من عيوبه، فالرمد أهون من العمى.
جاءت أحداث سورية الأخيرة وردود الفعل الهمجية الحمقاء للنظام عليها، لتعري سوأته للجميع، وليراه القريب والبعيد على حقيقته، وليتبين للكل أنه غير صالح لقيادة أمة تفوقت عليه كثيراً في الوعي والإخلاص والأخلاق، وبالتالي لا يمكن أن تبقى راضية به يتحكم بمقدراتها ومصيرها ويرسم لها سياساتها. وهكذا فقد النظام وعلى رأسه بشار الكثير من شعبيته إن لم يكن قد فقدها كلها عند السوريين غير العلويين. لقد سقط النظام أخلاقياً وفقد احترام الذين كانوا يظنون به خيراً، وتبين للجميع جهله وحمقه وعجزه عن القيام بشؤون الوطن في هذه المرحلة وفي قادم الأيام.
المشكلة في سورية، وربما النعمة الكبرى، هي أن استقلال سورية عن فرنسا والقوى الاستعمارية الأخرى استقلال حقيقي إلى حد لا بأس به، وليس لأي من هذه الدول على الجيش والقوى الأمنية المتحكمة بالبلد سلطة الأمر والنهي كما هو الحال في مصر أو تونس. لذا طال الأمر وقد يطول أكثر مما نتمنى، وذلك لأن النظام الذي قام على الطائفة العلوية وحاباها ومكّن أراذلها من الاستعلاء والتجبر على باقي السوريين جعل هذه الطائفة لا تتصور حياتها من دونه وتخشى على مستقبلها إن هو سقط.
النظام يستخدم الطائفة العلوية ويقوم عليها لا من حيث هي طائفة دينية تربطها وتحركها معتقدات مشتركة، بل من حيث هي أسر وعشائر مترابطة ويمكن أن يثق النظام بولائها. والسؤال الآن ما الفرق؟ الفرق هو أن العلويين طائفة محددة ومعرفة على أساس معتقدات دينية معينة، لكن هذه الطائفة قليلة التدين ولا تحركها إيديولوجيا دينية، هم في الغالب الأعم غير متدينين لا وفق عقيدة أجدادهم ( التي تؤمن أن الله نزل إلى الأرض واختلط بالبشر على هيئة رجل هو علي بن أبي طالب وبالتالي علي هو الله وليس مجرد ولي الله كما هو عند الشيعة )، ولا هم متدينون وفق عقائد إسلامية أخرى إلا قليلاً منهم. إنهم متسلطون على سورية لا من أجل تغليب معتقدهم، فكثير منهم قد لا يؤمنون به، وبخاصة أن أغلب المتعلمين منهم تعلموا الإسلام السني معنا في المدارس، ولم يكن لديهم تعليم ديني منزلي يعاكس ما تعلموه في المدارس، اللهم إلا في بعض الأسر في قراهم، وهذا ناتج عن ضعف التدين عندهم عموماً، مما كان له أثر إيجابي في بلوغ دعوة الإسلام غير المحرفة إلى جميع من درس منهم في المدارس ونجا من الضغوط العائلية التي تصر على معتقدات غير التي تلقوها في المدارس.
أقول هذا لننتبه إلى أن الطائفة العلوية الآن تشكل مشكلة للتغيير في سورية لا من منطلق ديني راسخ يصعب التعامل معه، بل من منطلق ولاء قبلي وعائلي تقويه المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة والمكتسبة من خلال ترابطهم ومحاباة بعضهم بعضاً في الوظائف الحكومية والمناصب وغير ذلك من طرق الانتفاع من السلطة. أي بكل بساطة مشكلتنا معهم ليست دينية ، إذ لو تسلط على الحكم أهل مدينة أخرى أو عشيرة معينة لتصرفوا بنفس الطريقة سواء كانوا مسلمين سنة أو مسيحيين أو غير ذلك، فالمشكلة هي الاستئثار بخيرات البلد، وهذا يقع فيه من يغلب على حكم بلد ما أياً كان معتقده، ما لم يكن في تقوى الأنبياء أو الصحابة، أو ما لم يكن نظام الحكم لا يسمح بذلك من خلال وجود رقابة شعبية ومساءلة حقيقية.
العلويون في سورية تحركهم النزعة القومية العربية، وتحركهم مطامعهم الحياتية التي تحرك جميع البشر، كالسعي إلى الثراء والجاه والمتعة في إطار من ضعف الوازع الديني لديهم.
في وضع كهذا فإن الصراع مع الطائفة العلوية من منطلق ديني وطائفي سيكون مفيداً للنظام لا لأحد سواه. فمعاداتهم من منطلق ديني سيدفعهم إلى العودة إلى معتقداتهم القديمة لا قناعة بها، بل من منطلق التعصب للدفاع عن الذات والتوحد مع البقية، وهذا سيكون تراجعاً في حالتهم الدينية، بدل الذي نتمناه لهم وهو أن يثبتوا على العقيدة السليمة التي تلقوها في المدارس. إن معاداتهم على أساس المعتقد الديني سيجعلهم حريصين عليه بغض النظر عن مدى اقتناعهم به، وهذا سيحولهم فعلاً إلى طائفة دينية منغلقة على نفسها وولاؤها لنفسها، ويصبح من الصعب عليهم الشعور بالولاء لسورية ككل، كبلد ينتمي إليه أهله بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، إنما هم أسرة واحدة مترابطة وكل له دينه الخاص، لكن مصلحتهم هي في العيش المشترك، وهم شركاء في الوطن، ولهم حقوق متساوية فيه، وكلهم يحرص عليه ويسعى لخيره.
ثم إن معاداة العلويين على أساس المعتقد الديني يعني أن تتحول الثورة من ثورة سورية شعبية من أجل الحرية والديمقراطية إلى ثورة طائفية سنية مخيفة لباقي السوريين من مسيحيين ودروز وإسماعيلية وغير ذلك، وهذا سيجعل هؤلاء يفضلون البقاء تحت نظام فاسد وظالم لكنه يعاملهم كمواطنين متساوين -ولو نظرياً - لا كأقليات في بلدهم، وسيجعلهم يقفون مع النظام ويحاربون الثورة، رغم أنهم غير راضين عن النظام، وليسوا مستفيدين منه كثيراً. وهذا يفسر لنا سبب حرص النظام على تحويل القضية إلى صراع سني علوي كالذي كان في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، حيث كانت هنالك حركة إسلامية مسلحة ليس لها امتداد شعبي واسع تحارب النظام من منطلق أنه نظام طائفي كافر. ويرينا أهمية أن لا نرجع إلى الوراء بعد أن نضج وعينا السياسي واقتنعنا أن مصلحتنا جميعاً هي في العيش المشترك على أساس المواطنة لا على أساس الانتماء الطائفي أو الديني.
كما إن استعداء الطائفة العلوية على أساس طائفي لا تستطيع الطائفة تغييره، فهي لن تغير مذهبها لترضي السنة مثلاً، وبالتالي تصبح الطائفة أمام تهديد وجودي، يجعلها تدافع عن نفسها وعن النظام الذي ستتوحد معه بشكل كامل دفاعاً مستميتاً، بل لنقل مميتاً، لأن القوة العسكرية في سورية مركزة بيد ضباط علويين، وهذا يعني اضطرار الطائفة إلى مذابح تسحق ثورة الشباب سحقاً.
يجب على الثائرين الحذر من أي انزلاق نحو الطائفية، لأنه سيجعل البلد جبهتين: السنة مقابل اتحاد العلويين مع الدروز والمسيحيين والإسماعيلين والعلمانيين بكافة توجهاتهم الفكرية والسياسية، وهو ما يتمناه النظام لأنه بذلك سيتغلب على الثورة ويقضي عليها قضاء لا تقوم بعده في ثلاثين سنة أخرى.
كما إن تحول الثورة إلى طائفية سيفقدها كل تأييد دولي اللهم إلا تعاطف السعودية، لأنها لا يمكن أن تصطف ضد الطائفة السنية، لكنها لن تدعم ثورة طائفية ولو كانت سنية إلا دعماً ضعيفاً لرفع العتب والملامة لا أكثر. الثورة الآن ولأنها ثورة وطنية وشعبية تطالب بحقوق جميع السوريين في حياة حرة كريمة وليست ثورة أصولية إسلامية ولا ثورة معادية للغرب قد اكتسبت تعاطف وتأييد أغلب الدول والشعوب.
سمعت الشيخ العرعور يقول إن الثورة إن نجحت ستعامل العلويين وغيرهم من الأقليات بالحسنى كما عامل عمر بن الخطاب اليهود في المجتمع المسلم، وهذا رأي غير موفق، لأن عمر بن الخطاب تسلم السلطة بعد انتصار المسلمين وتغلبهم على من سواهم بالسلاح، أما الوضع المماثل لوضعنا الآن فهو وضع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما هاجر إلى المدينة وأسس دولة فيها كان لليهود فيها وضع المواطنة الكاملة، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فهم أصحاب البلاد والمسلمون مثلهم، إضافة إلى المهاجرين من مكة وأعدادهم محدودة، وعلينا في هذا العصر تذكر أننا لسنا غزاة فاتحين، بل نحن أبناء وطن واحد نتشارك أرضه وسماءه وخيراته مع إخوة لنا قد يختلفون عنا بالدين أو المذهب لكن لهم علينا حق البر كما لآبائنا وأمهاتنا علينا حق البر، وليس ذلك كرماً ولا تسامحاً منا معهم، فنحن لسنا أحق بالبلاد منهم ، أما اختلاف الدين والرأي، فالأصل أنه لا إكراه في الدين، ومن حقنا وحقهم أن تكون لنا ولهم حرية الاعتقاد وممارسة المعتقد في إطار قانون ينظم علاقتنا ببعض فلا يطغى جانب على جانب. ولنتذكر أنه لو كان هنالك مسلم وأمه أو أخوه مشرك -ولا أقول كتابياً، حيث لأهل الكتاب وضع مفضل في الإسلام- فإن عليه بره أو برها، ولا يحرم حتى الشرك أو الإلحاد أهلنا من حقهم في برِّنا، وهو ليس تفضلاً منا عليهم، بل حق لهم، علينا أداؤه بلا منَّة.
رغم اختلاف الدين والمعتقد بين الرسل وأقوامهم الذين قص علينا ربنا في القرآن قصصهم، ورغم معاندة هذه الأقوام للدعوة واعتدائها على رسل الله حتى استحقت من الله الإهلاك والدمار، يصر القرآن الكريم على أن الرسل هم إخوان لأولئك الذين كفروا وعاندوا، وحتى لوط الذي أرسل إلى قوم غير قومه، فقد وصفهم الخالق أنهم إخوان لوط.
نحن في حاجة إلى إعادة فهم علاقتنا بأبناء أمتنا الذين نشترك معهم في وطن واحد، لنتخلص من أفكار غير ناضجة انتشرت عند بعض المتدينين وجعلتهم يحلمون بدولة إسلامية خالصة للمسلمين، كالدولة التي يحلم بها اليهود ويريدون أن يعترف لهم العالم أن إسرائيل دولة يهودية، ليكون العرب فيها ضيوفاً وهم أصحاب البلاد الأصليين. علينا نحن الذين ننتمي للأكثرية الدينية في سورية أن نضع أنفسنا مكان باقي أبناء وطننا الذين ينتمون لأديان أو مذاهب أخرى ولا يشكلون أكثريات عددية، لنحس بأحاسيسهم ونفهم مخاوفهم ولا نستغرب إصرارهم على حق المواطنة المتساوية معنا.
أما النظام الذي يتصرف بمنتهى الغباء السياسي، والمتوقع له أن يستمر في غبائه المتأصل فيه، فقد خسر الكثير من رصيده عند أغلب السوريين من جميع الطوائف وعند بعض العلويين أنفسهم ، وهو باستمرار أخطائه وجرائمه التي يقع فيها كل يوم سيخسر شعبيته عند الطائفة العلوية، التي سيأتي يوم تخشى فيه على مصيرها مع تورط بعض أفرادها في جرائم بشعة ضد باقي السوريين لا يبررها شيء، بخاصة إن نجحت الثورة في البقاء ثورة لا عنف وثورة سلمية مئة بالمئة، لا تمسك ولا حتى حجراً أو عصاً، بل ثورة التزام بكفِّ الأيدي، كما التزم المسلمون في مكة قبل الهجرة كفّ أيديهم رغم كل الأذى والتعذيب الذي تعرضوا له، لكنهم لم يمدوا أيديهم ولا حتى للدفاع عن أنفسهم.
صحيح أن من مات دفاعاً عن نفسه أو عرضه أو ماله فهو شهيد، لكن هذا مختلف عن الخروج للقول للظالم يا ظالم كما هو حال المتظاهرين في سورية، فإنهم عليهم كفُّ أيديهم وعدم الدفاع عن أنفسهم بأي نوع من السلاح لأنهم بذلك يتحولون إلى خوارج ويفقدون مكانة المجاهد بكلمة حق عند سلطان جائر. لا تستغربوا أن لا يكون للمتظاهر حق في أن يدافع عن نفسه ضد من يتعمد قتله أو إيذاءه، فالموقف مختلف عن الدفاع عن النفس والعرض والمال تجاه لص أو قاطع طريق. إن الخروج في المظاهرات السلمية جهاد، والموت فيها استشهاد لا شك فيه، ومن كان مستعداً للموت في سبيل الله فليقدم عليه، ولا يفسده ببسط يده إلى عدوه لا بسلاح ولا غيره، لا من قبيل الهجوم ولا من قبيل الدفاع. إنك بمجرد أن تبسط يدك لتضرب أو تقتل ولو دفاعاً عن نفسك فإن الموقف كله سيفقد تأثيره في الناس وباقي الشعوب وسيصبح موقف مصارعة لدى الناس رغبة في معرفة من الغالب فيه ، والغالب كما يقال ذنبه مغفور، فالدنيا بطبعها تميل مع المنتصر والغالب بغض النظر إن كان ظالماً أو مظلوماً.
إن الثورة إن لجأت إلى السلاح ولو مجرد قبضات أيدي أبنائها العزلاء تكون قد دخلت مع النظام في مباراة هو الفائز فيها حتماً ويقيناً، لأن العنف هو اللعبة الوحيدة التي يجيدها، والسلاح الذي بيده لا مقارنة بينه وبين ما يمكن لمعارضة مسلحة أن تمتلكه، والتنظيم والتدريب لديه لا يمكن لمعارضة شعبية أن تتفوق عليه فيهما، ولا تخدعنا انتصارات الليبيين فالحال مختلف تماماً. إن إصرار الشباب على التظاهر وتلقي الرصاص الحي بصدور عارية وإيصال صورة ذلك وخبره إلى باقي السوريين وباقي شعوب الأرض هو الذي سيسقط النظام، ولن يستطيع النظام مقاومته والقضاء عليه. . فسلمية الثورة تجعل الصراع والمنافسة والمباراة في شيء لا يمتلكه النظام ولا يقدر عليه، فهو إما أن يسمح بالتظاهر دون أن يقتل المتظاهرين وعندها ستخرج المظاهرات المليونية وهذا ما يخشاه، أو أن يستمر الحال على ما هو عليه الآن مظاهرات خاطفة أو طيارة كما سماها ياسين الحاج صالح يتم فيها الهتاف والتصوير والنشر ثم الهروب مع ما يمكن أن يسقط فيها من شهداء أو مصابين، وهذا يعني أن تتفاعل الأمور أكثر فأكثر، فيضطر العقلاء من الضباط العلويين الممسكين بمواطن القوة في البلاد إلى أن ينقذوا أنفسهم وطائفتهم من مصير مخيف، وذلك بأن يتخلصوا من النظام الذي سيكون يومها عبئاً ثقيلاً جداً على الطائفة العلوية، وستتخلى عنه حفاظاً على نفسها ومكتسباتها، فالإنسان مستعد للتضحية حتى بعينه إن صارت مصدر خطر على حياته.
العلويون هم الآن الأمل وطوق النجاة الوحيد للنظام، ما لم تتحول الثورة إلى مسلحة أو طائفية ( سنية ضد علوية )، والعلويون هم من سينقذ سورية من نظام تغوَّل ومستعد أن يضحي بهم جميعهم ليبقى في الحكم. النظام ليس فئة ذات عقيدة حقيقية تدافع عنها وتموت في سبيلها، سواء كانت عقيدة صحيحة أو فاسدة من المنظور الديني، إنه عصابة ممن يستأثرون بخيرات البلاد والعزة فيها لتكون لهم الكبرياء في الأرض من دون الناس، وللكبرياء لذتها، وللثروة إغراؤها، وهم مستعدون للتضحية حتى بأبناء طائفتهم، لأنهم لا يهمهم إلا أنفسهم، ولو كان لديهم خلق أو ضمير لما ارتكبوا ما يرتكبونه كل يوم من جرائم بشعة أذهلت البعيد والقريب.
أنا على يقين وإن كان لا يعلم الغيب إلا الله ، أنا على يقين أن الطائفة العلوية سوف تتخلى عن النظام ولو بعد حين، لأن الطائفة بشر مثل باقي السوريين لهم آمالهم ومخاوفهم وتهمهم أنفسهم ومستقبل أجيالهم ويفكرون بمنطق كما نفكر، ويوماً بعد يوم سيتكشف للعلويين كذب النظام وزيف ادعائه أنه يواجه مؤامرة خارجية وأن جماعات إرهابية هي التي تقتل المتظاهرين السلميين العزَّل، وستراه الطائفة على حقيقته عصابة من القتلة واللصوص والدجالين، وستشعر بالخوف على مصيرها إن تركته مرتبطاً بهذا النظام الذي يورطها كل يوم بمزيد من الجرائم يرتكبها حثالة الطائفة ويتحمل وزرها كل الطائفة.
هذا ليس استعطافاً للطائفة إنما هو توقع لما ستصل إليه الأمور، لأن سنن الله في خلقه لا تتخلَّف سواء في الطبيعة أو النفوس والمجتمعات. المظاهرات حتى لو كانت مليونية لن تسقط نظاماً من أناس لا حياء عندهم -وإن لم تستحِ فاصنع ما شئت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. إن المظاهرات لن تسقط النظام بفعل صرخات المتظاهرين، إنما ستسقطه لأنها تجبره على التصرف بوحشية لا يبررها شيء، وعلى ارتكاب المزيد من الجرائم، وزيادة العيار كل يوم على أمل أن ينجح في إعادة الخوف إلى النفوس.. ضحاياه هم الذين سيقضون عليه وإن بغير أيديهم، وكما قيل من مأمنه يؤتى الحذِر.
صحيح أن النظام يرعبه الانشقاقات في الجيش لأن الانشقاقات إن كثرت فسينفرط عقد الجيش ويتحول إلى فوضى مخيفة ، لكن النظام لا يخاف من تحول الثورة الشعبية إلى مسلحة، بل يتمنى ذلك لتتغيير قواعد اللعبة وندخل في لعبة يجيدها هو ومتمرس عليها ولديه كل مقومات الفوز فيها فوزاً ساحقاً. لذا علينا بذل كل شيء لتبقى أيدينا مكفوفة، ولتبقى ثورتنا سلمية مئة بالمئة، ولا حاجة هنالك لأي عسكري يريد حماية المتظاهرين من بطش رجال الأمن والشبيحة، فمن يريد الحماية من هؤلاء المتظاهرين يمكنه لزوم داره وهم لن يأتوا إليه. أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وسيد الشهداء رجل قام إلى إمام (أي حاكم) جائر فوعظه فقتله، أي لم يزد هذا المجاهد على قول الحق بلسانه، فقتله الحاكم الظالم وأوصله إلى مرتبة سيد الشهداء.
إن الخروج في المظاهرات السلمية والمشاركة في الفعاليات السلمية للثورة السورية جهاد في سبيل الله يكتب الله الأجر لمن يشارك فيه ولا يلوم من يخاف على نفسه فيمتنع عن المشاركة طالما أن قلبه مع إخوانه المجاهدين من أجله وأجل أنفسهم، لذا لا مبرر لأي عنف من أجل حماية المتظاهرين..إنما هو جهاد الكلمة والاستعداد للموت في سبيل إيصالها ، والله يعطي عليه جنة عرضها السماوات والأرض، وما أحسب المتظاهرين يريدون فعلاً من يحمل السلاح ليدافع عنهم، فقد خرجوا ليقولوا كلمة الحق ويموتوا من أجلها، ولا يريدون حماية أحد إلا ربَّ العالمين.
وهذا يوصلنا إلى موضوع الحماية الدولية ومطالبة بعض المتظاهرين بها لأنهم ظنوا أن لا أمل إلا فيها، ولأنهم غالبهم جماهير طيبة لا تعرف مكر الساسة وأطماع الدول في خيرات غيرها. إن الحظر الجوي لن يحمي المتظاهرين من جرائم الشبيحة والمخابرات، فالحظر الجوي على جنوب العراق وشماله بعد حرب تحرير الكويت عام 1991 لم يمنع صدام من ارتكاب مجازر بحق أهل البصرة لما انتفضوا عليه، بل مهد لتقسيم العراق ولم يضمن أية حماية للمنتفضين. وحتى القصف الجوي المركز لم يضمن سلامة الليبيين، فالذين قتلوا بعد بدئه أضعاف الذين قتلوا قبله، عدا عن إنه يفقد الثورة طابعها السلمي الذي لا يعرف النظام كيف يتعامل معه، إضافة إلى أن القصف الجوي لن يستطيع انتقاء الشبيحة ورجال المخابرات ليقضي عليهم ويحمي الناس من أذاهم. أما الاحتلال الأجنبي فاسألوا العراقيين عنه، ولعل استمرار النظام الحالي مئة سنة خير لنا من الاستعمار والفوضى المدمرة.
لكن مالذي يمكن للدول الأخرى أن تقدم لثورة السوريين السلمية؟
يمكنها الاستمرار في فضح جرائم النظام وإيصال صوت الثوار والمعارضة لباقي السوريين وباقي الشعوب والحكومات، ويمكنها تزويد الثوار بوسائل تمكنهم من كسر الحصار الإعلامي الذي يفرضه النظام وأقلها أجهزة الاتصال التي يمكنها تجاوز أجهزة الاتصالات المحلية، ويمكنها مواصلة وتصعيد ضغوطها السياسية على النظام والتضييق عليه مما سيعجل في شعور الطائفة العلوية بخطورة الوضع الذي يورطها فيه النظام وعندها تنضم إلى الثورة بالطريقة المناسبة لها.
نحن نريد تحسين أوضاعنا لا أن نعالج البلاء ببلاء أشد منه، وعلينا أن نصبر ونواصل الجهاد ونحن موقنون أن الله ناصرنا، لكن لا بد لكل شيء من أسبابه، ولن نتوقع أن ينقذنا الله كما أنقذ إبراهيم من النار بأن غير طبيعتها فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم. لا بد للعوامل أن تجتمع وتتفاعل ليحدث التغيير والنصر. وإنه وإن كان التغيير المتوقع ليس جذرياً، ولا يعني إزاحة الضباط العلويين نهائياً عن سيطرتهم على الجيش، لكنه بالتأكيد يعني تحرر الناس من تسلط ضباط الأمن والمخابرات وتدخلهم في جميع أمور السوريين، وتمتعهم بحصانة تمكنهم من ارتكاب الجرائم بحق المواطنين دون مساءلة أو عقاب، والتغيير غير الجذري المتوقع سيعطي الناس حرية التعبير عن آراهم والمشاركة السياسية وسيأتي بأناس منتخبين يتولون إدارة شؤون البلاد والعباد منهم الصالح والطالح، لكن سيكون هنالك تداول وإمكانية لفضح السارق ومقاضاته. لن تسمح القوى العظمى لحكم ثوري جذري معادٍ لها ويهدد إسرائيل تهديداً حقيقياً، فعندها ستدعم بقاء النظام الحالي ولن نهمهم في شيء، كما إنني أتوقع أن يتم أي عمل إنقلابي يقوم به الضباط العلوييون ومن معهم من أبناء الطوائف الأخرى بالتنسيق إن لم يكن بدعم ومؤازرة الدول الغربية وبخاصة فرنسا، التي بالتأكيد لها اتصالاتها بضباط الطائفة العلوية المتنفذين في الجيش والأمن.
علينا ترسيخ قناعتنا بقضية المواطنة لكل السوريين على اختلاف أديانهم، وأنه حتى لو وصل إسلاميون إلى السلطة عندما تعود سورية ديمقراطية فإنهم لن يفرضوا الحجاب على أحد.. فالتاريخ والفقه الإسلامي يؤكدان أن بلاد المسلمين في عصور الخلافة الإسلامية كانت تخرج فيها ملايين النساء وكثير منهن سافرات، فما لا يعرفه كثيرون أن الإسلام لا يفرض الحجاب على المرأة إن كانت مملوكة وليست حرة، جميلة كانت أو غير جميلة، ولا يحمي الرجال من فتنة النساء بتحجيبهن بالإكراه، بل على الرجال غض أبصارهم . ألم يكن في الجواري الجميلات من كل الجنسيات السافرات فتنة لمن لا يغض بصره من الرجال المسلمين؟ الحجاب يحمي المرأة المسلمة من أن ينظر إليها الرجال كجسد وينسون الإنسان فيها، لذا ترك وجهها تكشفه للجميع لأنه موضع الإنسانية حيث تلتقي الأبصار بالأبصار، أما الجارية التي تشترى بالمال فلا معنى لتكليفها بحجاب يصونها من أن تعامل كجسد وهي تُقَيَّم بالمال وتورث كما تورث الأشياء، أما إن تحررت، فعندها يكون لحجابها معنىً. تركيا الآن تحكمها فئة مؤمنة غير قادرة على فرض أي قيود دينية إجتماعية على الناس حتى لو أرادت، لكنها ولأنها فئة من الناس الذين لا يسرقون مال الأمة ولا يخونونها، استطاعت أن توصل تركيا إلى مرتبة الدولة العشرين عالمياً في الاقتصاد خلال بضع سنوات لا غير. علينا أن نطمئن غير المتدينين وغير المسلمين أن الثورة ليست كثورة إيران دينية متعصبة، بل هي ثورة الأمة السورية كلها ومن أجل جميع أبنائها، فإنه بدون هذا التطمين ستبقى الطوائف الأخرى مترددة في المشاركة، والثورة بدون مشاركة الجميع فيها لن تحقق التغيير المنشود، ولن يتحقق أي تغيير مهم ما لم تنضم الطائفة العلوية للثورة ممثلة بجماهيرها وضباطها وزعمائها.
علينا أن لا نتصور كل العلويين أشرار لأن منهم الشبيحة وعناصر المخابرات فهؤلاء ليسوا كل العلويين، والعلويون هم الأكثرون في الأمن لا لأنهم أشرار إنما لأن النظام لا يثق بغيرهم، ولو وثق لوجد الكثير من أبناء السنة والطوائف الأخرى مستعدين للقيام بما تقوم به الشبيحة والمخابرات. كما علينا أن لا نتصور العلويين شياطين أو مستكبرين لأننا تصادف أن واجهنا إساءة من أحدهم أو سمعنا كيف أساء بعضهم الأدب، أو أكل حقوق الناس معتزاً أنه علوي لديه القدرة على إيذاء الناس من خلال الأمن. لو كانت سورية تحكمها قبيلة أو عشيرة أو أهل بلدة من أي دين آخر لظهر من كثير من هؤلاء نوعيات لا تقل حقارة ونذالة عما ظهر من بعض العلويين الذين غرتهم قدرتهم على إيذاء الناس فطغوا وتجبروا. إن الطغيان والظلم لا دين له والبشر يقعون فيه على تنوع قومياتهم أو أديانهم أو طوائفهم. القضية قضية أخلاق قبل كل شيء.. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا. والذي يعرف العلويين عن قرب يعرف أن أكثرهم أناس طيبون ويريدون أن يعيشوا مثل كل السوريين، وأننا لو كنا مكانهم نتمتع بوضع متميز على الآخرين في البلد، من منا كان سيترفع عن المنافع أو الوظائف أو المنح الدراسية أو غيرها لأنها لا تعطي للجميع بالعدل؟ أعتقد أن القليل القليل من كان سيفعل ذلك، وبخاصة أن ما يصل إلى جماهير العلويين من المنافع ليس من قبيل المنافع غير العادية، بل هي غالباً مما يستحقه أي مواطن سوري، اللهم إلا أكابر مجرميها الذين يستأثرون بخيرات البلاد ويحجبونها عن باقي السوريين بما فيهم العلويون. هل سمعتم أن رامي مخلوف وأمثاله يبذلون ملياراتهم للنهوض بحال المناطق العلوية وفقرائهم؟
كل امريءٍ بما كسب رهين، ويوم القيامة يفصل الله بين الناس فيخبرهم من كان منهم على حق ومن كان على باطل، أما في الدنيا فنحن السوريين عائلة واحدة تتعامل بالبر والمعروف فيما بينها وتتعاون من أجل حياة أفضل لجميع أبنائها أياً كانت أديانهم أو قومياتهم.
الاشتراك في:
التعليقات (Atom)